Thursday, 19 June 2025

 الجذور التاريخية لعلاقة الشيعة الإيرانيين بالقضية الفلسطينية وموقفهم من إسرائيل (*)

ـ متى وأين وكيف ولدت علاقتهم الفقهية والسياسية بهذه القضية!؟ وما الذي يميزها عن خلفيتها في الفقه السني!؟

ـ وثائق ألمانية مجهولة: الشاه و واشنطن يطلبان من «الأسد» استضافة «الخميني» في سوريا، و«عرفات» و«حبش» يرسلان فريق حراسات له إلى فرنسا.

ـ المفارقة الإيرانية: أي خطر يتهدد القضية الفلسطينية من انتصار«التيار القومي الفارسي» على «التيار الأممي الإسلامي»!؟

(حقائق و وقائع شبه مجهولة عربياً عن تاريخ إيران المعاصر)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   يعتقد معظم العرب، خصوصاً الذين تربوا وترعرعوا على رضاعة الحليب الفاسد من أثداء الإعلام العربي (الممول خليجياً منذ حصول الطفرة النفطية في السبعينيات)، أن علاقة شيعة إيران بالقضية الفلسطينية وُلدت بعد «الثورة الخمينية». وبتأثير من مفاعيل هذا الحليب السامّ نفسه،الذي رضعوه طوال أربعة عقود، أصبحوا يؤمنون إيماناً أعمى (طائفياً في مبناه ومعناه) بأن نظام إيران ما بعد الشاه استخدم القضية الفلسطينية «كمطية لتنفيذ أجندته الخبيثة في العالم العربي»، كما نقرأ ونسمع في كل مكان منذ أربعين عاماً! (أنا، وبصدق، ورغم أن إحدى هواياتي سلْخ حتى جلد القملة للبحث عما يمكن أن يوجد تحته من خلايا خبيثة، أحاول منذ ربع قرن أن أعرف أي شيء عن هذه الأجندة ، ولكني لم أستطع معرفة أو أفهم أي شيء منها أو عنها حتى اليوم، خصوصاً وأن كل ما قيل عنها ثبت أنه دجل من النوع السوقي الرخيص والغبي، وفي المقدمة من ذلك قصة «تشييع» السنة في بلادنا(1)! وأقل سؤال يُطرح في هذا السياق: كيف يمكن لنظام أن يقبل فقدان ماقيمته 3 تريليونات / 3 آلاف مليار/ دولار(كخسائر مالية مباشرة وغير مباشرة) ،ويبقى تحت حصار دولي مُطْبق طوال خمسة وأربعين عاماً، ولم يحقق سوى خسائر صافية متراكمة من وراء ذلك، وأكثر من هذا على المستوى السياسي والمعنوي، في حين أنه يستطيع الخلاص من هذا العبء كله ويحوله إلى أرباح صافية خلال شهر واحد ... لو وافق فقط  على وقف دعمه المالي والعسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية والعربية وغيّر موقفه من إسرائيل والولايات المتحدة ولو شكلياً، كما طرحت عليه الولايات المتحدة مراراً في أكثر من مناسبة وعبر أكثر من قناة تفاوض!؟).

(.......)

  على أي حال، إضافة لما هو مشترك بين شيعة إيران وبقية المسلمين من زاوية النظر إلى القضية الفلسطينية، بوصفها «قضية إسلامية»، أو «قضية وقف إسلامي» كما جاء في النظام الداخلي لحركة «حماس»( وهذا مما أساء لهذه القضية وطنياً، بغض النظر عن قيمته التعبوية دينياً)، هناك تفصيل فقهي - تاريخي على هذا الصعيد يخص الشيعة وحدهم (بفِرقهم المختلفة: الإثني عشرية، الإسماعيلية، العلوية، الإباضية، الزيدية ..إلخ)، لاسيما الفقه الشيعي الإيراني المعاصر،وبعض الفقه الشيعي العربي(العراقي خصوصاً)، وليس كله. ففي اللاوعي الجمعي لدى هؤلاء الشيعة، وأحياناً بوعي ٍكامل منهم، يجري الربط بين واقعة فتح «حصون خيبر اليهودية الثمانية» في العام السابع للهجرة/628 م، وهي واقعة معروفة جيداً في التاريخ الإسلامي ، وبين إسرائيل المعاصرة ككيان سياسي. وطبقاً للرواية الإسلامية، المتفق عليها بإجماع السنة والشيعة، فإن النبي العربي أعطى راية الفتح يومها لـ«علي بن أبي طالب»، رغم أنه كان مصاباً بالرمد الربيعي. أما التفاصيل الأخرى فلسنا بصددها الآن، خصوصا تلك الصورة الكاريكاتورية المسيئة جداً لـ«علي»، والتي تتحدث عن أنه «دحا (أطاح) باب حصن خيبر» بجسده، كما لو أنه ... جرافة أو بلدوزر يتبع لإحدى بلديات أو شركات الإنشاءات في الحجاز! وهذه رواية أشبه برواية النصّاب والدجال الكبير«أنس بن مالك» الذي كان من أكثر من أساء لكرامة النبي «محمد» حين فبرك عنه القصة الحقيرة المجنونة التي تزعم أنه «كان له قدرة أربعين رجلاً في نيك النساء في طواف واحد»، والتي أعاد نشرها وتكريسها دجال الإسلام السني الأكبر«البخاري»، الذي صوّر النبي العربي في مروياته بطريقة حقيرة على غرار طريقة التناخ والتلمود في تصوير أنبياء بني إسرائيل. وهذا ليس محض مصادفة أبداً!(2). كما أنه ليس دون مغزى خاص أن «قاسم سليماني»، وحين كان يرسل مهندسيه إلى غزة لتقديم المشورة الهندسية لمقاوميها في حفر الأنفاق، إنما كان يستلهم قصة «سلمان الفارسي» ، المعلم الثاني لـ«علي بن أبي طالب» بعد وفاة «النبي محمد»، ومنقذ الإسلام من التناخ والتلمود في الطبعة الفارسية من الإسلام، في حفر«خندق يثرب» لمواجهة التحالف القبلي «القريشي - اليهودي» (قريش، غطفان، بني النضير ...إلخ)!

ولأن إسرائيل المعاصرة تشكل، في الثقافة العربية والإسلامية الغبية والحمقاء، «امتداداً» لليهود العرب في الحجاز( ويشتركون في ذلك - يا للمفارقة - مع مشعوذَيْ «الماركسية» السوقية ونصّابَيْها الكبيرين، «لينين» و« ستالين»!)، رغم أنه لا يوجد أي علاقة عرقية بين اليهود الأوربيين الأشكناز المؤسسين لهذه الدولة (وهم أصلاً ليسوا يهوداً، بل من سلالة القبائل البدوية الخزرية/ التركية القادمة من سهوب آسيا، والذين تهودوا أواخر القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الميلادي فقط)، أصبح قتالُ إسرائيل في عرفهم و فقههم و وعيهم «امتداداً للحرب التي شنها النبي على يهود خيبر، ويهود الجزيرة العربية عموماً، تحت راية علي»! ولأن «علي» هو المرجعية التأسيسية العليا للشيعة بعد النبي، كان من الطبيعي أن يحتل الموقف من إسرائيل مكانة أكثر خصوصية لديهم مما هي لدى السنة، انطلاقاً من ذلك الربط الغريب والعجيب (الناجم - على الأرجح - عن جهل) بين «يهود خيبر» والجزيرة العربية عموماً، من جهة، والمشروع اليهودي-الصهيوني المعاصر، من جهة أخرى. فعلاقة المؤمنين السنة بفلسطين (إذا استثنينا منهم ذوي الخلفيات الوطنية والقومية واليسارية)، تكاد تنحصر بقضية «المسجد الأقصى». وهذا في منتهى الخطورة، لأنه قد يفضي في النهاية إلى قبولهم بالسيادة على المسجد وحده دون بقية أرض فلسطين، وحتى دون «القدس» نفسها! هذا مع العلم بأنه لا توجد أي علاقة أو رابطة بين «المسجد الأقصى» المذكور في «سورة بني إسرائيل»(سورة الإسراء) و«المسجد الأقصى» في فلسطين من قريب أو بعيد، كما كشف المؤرخ والجغرافي «محمد بن عبد الله الأزرقي المكي» منذ مطلع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي (في عمله الموسوعي:« أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار»)، الذي كان أول من حدد موضع «المسجد الأقصى» على أنه، من وجهة نظره، «مسجد الجعرانة» (20 كم شمال شرق الكعبة). فهذه العلاقة ، بين «المسجد الأقصى» الحالي في فلسطين و «المسجد الأقصى» القرآني، أكذوبة وخرافة يعود جذرها إلى قصة الحاخام والفقيه اليهودي - التلمودي المحتال «كعب /عكيفا بن ماتع الحميري»، المستشار الديني للخليفة «عمر بن الخطاب» ومعلمُه في مجال «الإسرائيليات»، والذي ورّطه و ورّط المسلمين والعرب جميعاً من بعده (إلى جانب زميليه الحاخامين «عبد الله بن سلام» و «وهب بن منبه») بهذه الكذبة منذ أن رافقه إلى «إيلياء» (القدس) وأقنعه بأن «المسجد الأقصى المذكور في القرآن هو القبلة اليهودية في إيلياء، التي كان النبي محمد والمسلمون الأوائل يتجهون نحوها في صلواتهم ،والتي عرج منها النبي إلى السماء. ولهذا عليك أن تبني المسجد في هذا المكان الذي كان يوجد فيه الهيكل اليهودي/ القبلة اليهودية، التي كانت القبلة الأولى للمسلمين قبل أن تتحول إلى كعبة مكة».... إلى آخر القصة المعروفة الموثقة جيداً لدى الإخباريين والفقهاء المسلمين، والتي جرت بلورتها خلال العهد الأموي لتتخذ الصيغة المعروفة اليوم، وليس قبل ذلك. فالنبي لم يكن يعرف شيئاً عن «إيلياء» ولم تشكل أي قيمة معرفية في ثقافته العامة أو الدينية، ولم يذكرها ولو لمرة واحدة في أيما حديث نُقل عنه، صحيحاً كان أم مكذوباً، في حدود ما أتذكره من قراءاتي لـ «الجوامع» و«السنن» (عند «البخاري»، «مسلم» و«الترمذي»، «النسائي»، «ابن ماجة» و«أبو داود»). هذا فضلاً عن أن اسم «إيلياء» ظل قيد الاستخدام رسمياً وشعبياً وفي الأدب المكتوب والشفهي حتى أواسط القرن الثامن الميلادي / الثاني الهجري على الأقل، قبل أن يحل محله تدريجياً الاسم التناخي/ التلمودي(« بيت المقدس: بيت هامكداش בית המקדש»)، الذي يعني في الأدب التناخي والتلمودي «الهيكل» فقط، وليس «يوروشَلايم / أورشليم» ككل، ويعني لغويا بالمعنى الحرفي «المعبد»! ولم يحصل هذا الاستبدال إلا بعد انتشار الروايات والتفسيرات التناخية والتلمودية في أوساط المسلمين وهيمنتها على الفقه السني إجمالاً (وبعض الشيعي المتأخر، لاسيما العربي العراقي منه) في سياق عملية تهويد الإسلام التي بدأت في العصر الأموي واستمرت في العهد العباسي، بل وإلى زمن «ابن تيمية»، الذي كان أكثر فقهاء السنة غَرْفاً من الفقه التناخي والتلمودي وتأثراً به (لاسيما منه فقه طائفة «القبالاקבלה» وفقه «موسى بن ميمون»). ولا أدل على ذلك من أن اسم «إيلياء» هو الذي استُخدم في «العهدة العمرية» بنسخها المختلفة (المحرّفة منها والصحيحة على السواء، عند: «اليعقوبي»، «ابن قيّم الجوزية» ، «ابن عساكر»،«الطبري» و«ابن تيمية» ...إلخ).ولو أن الخليفة «عمر» وأصحابَه الذين كانوا شهوداً على «العهدة» («خالد بن الوليد»، «معاوية بن أبي سفيان»، «عمرو بن العاص» ...إلخ) ورثوا أي شيء عن النبي «محمد» يتعلق باسم المدينة (سواء في صيغة «القدس» أو «بيت المقدس»)، لكانوا ذكروه في نص «العهدة» ولما تجرؤوا على إهماله أو استخدموا اسم «إيلياء» في نص «العهدة» (في العام 15 هجرية/ 636م). وهذا من البدَهيات التي يمكن حتى للساذج والجاهل والأحمق أن يلاحظها... بشرط أن يشغّل عقله قليلاً(3).

بتعبير آخر: على خلاف الفقه السني الذي يربط الإسلام بفلسطين من زاوية «المسجد الأقصى»، الذي حوله الأمويون إلى كعبة ومحج لمدة ثماني سنوات تقريباً، بدلاً من كعبة مكة التي جرى هدمُها وتدميرها بمنجنيقات الدولة الأموية، ودائماً بالاستناد «الفقهي» والتاريخي إلى خرافة ومشورة الحاخام «كعب بن ماتع الحميري» و الأدب التناخي-التلمودي عموماً، فإن الفقه الشيعي، وبعد تبلوره في القرن الثامن على يدي «محمد الباقر» وابنه «جعفر الصادق»، احتفظ بجزئية واحدة من القصة، وهي ربط القدس ككل بالعقيدة الإسلامية من زاوية كونها «معراج النبي إلى السماء»، وليس «بيت المقدس» (فهناك فرق هائل بين المعنيين). أما قصة «المسجد الأقصى» فبقيت موضع خلاف بين فقهاء الشيعة ومرجعياتهم التاريخية الكبرى، ولا يوجد اتفاق بشأنه فيما بينهم. فبعضهم يعتبر «المسجد الأقصى» المذكور في «سورة بني إسرائيل/ سورة الإسراء» مسجداً في السماء . وأنا من مؤيدي هذا الرأي بقوة وإلى أبعد الحدود، لأن هذا هو المعنى اللاهوتي/ العرفاني / الغيبي لـ «المسجد الأقصى» كما ورد في القرآن، ولأنه ينسجم تماماً مع سيناريو الفيلم الهوليوودي الذي أخرجه الدجال «البخاري» عن «إسراء» النبي و«معراجه» إلى السماء السابعة وصَلاته هناك إماماً بالأنبياء. وهو فيلم منسوخ عن الأدب التناخي (سفر الملوك الثاني 2:11) الذي يتحدث عن صعود «إيليا» إلى السماء بـ«مركبة وخيول من نار». وغني عن البيان أن «البخاري» نقل هذه الرواية الهوليوودية  عن مصدر واحد انفرد بها، وهو صحابي خرافي يهودي يدعي «مالك بن صعصعة النجّاري»، الذي جرى اختراعه في القرن الثاني أو الثالث الهجري من العدم في سياق عملية التهويد الأموي - العباسي للإسلام، ولا تُعرف قرعة أبيه من أين، تماماً كما اخترعوا شخصية «عبد الله بن سبأ» الخرافية من العدم أيضاً(4). وغالباً ما كان الفقهاء والإخباريون المسلمون يخترعون شخصيات لا وجود لها في التاريخ، فقط من أجل خلق وترويج قصة معينة أو حديث نبوي معين لأسباب سياسية أو دينية؛ أي لاستخدامها مرة واحدة كما ورق التواليت!

هذا بينما بعض فقهاء الشيعة الآخرين يتفق مع المسلمين السنة في أن المقصود بـ«المسجد الأقصى» القرآني  هو المسجد الذي نعرفه اليوم، رغم أنه لم يوجد إلا بعد «نزول» الآية بأكثر من 37 عاماً، إذا  اعتبرنا تاريخ بنائه النظري جرى خلال زيارة الخليفة «عمر» لفلسطين، و أكثر من سبعين عاماً إذا اعتبرنا تاريخ بنائه الفعلي زمن «عبد الملك بن مروان» في العام 685 م! وثمة فئة ثالثة قليلة تعتبر «المسجد الأقصى» هو «مسجد الجعرانة» الذي أشار إليه «الأزرقي» في كتابه الموسوعي المشارإليه أعلاه. لكن «المسجد الأقصى» أصبح يحتل - خصوصاً خلال العقود الأربعة الأخيرة - مكانة مركزية في الخطاب السياسي والإعلامي الشيعي عموماً، على غرار السنّة، ولكن بدرجة أدنى من منزلة القدس وفلسطين ، لأسباب سياسية عملية تعبوية تتعلق بـالقضية الفلسطينية و«ضرورة وحدة خطاب المسلمين» و «مشروع التقريب بين المذاهب». وعلى هذه الخلفية، وبناء على فتوى من «الخامنائي»، أعلنت الحكومة الإيرانية في العام 2016  يوم 21 آب / أغسطس من كل عام «يوم المسجد الأقصى»، وهو المصادف لحرق المسجد صيف العام 1969 على يد يهودي أسترالي مهووس دينياً، وصفته الشرطة الإسرائيلية يومها - كالعادة - بأنه «مختل عقلياً». وقد نجحت الحكومة الإيرانية في إلزام الدول الإسلامية بإقرار هذا اليوم رسمياً بعد أن قدمت الاقتراح إلى «منظمة المؤتمر الإسلامي»، ولو أنه ما من بلد إسلامي - عدا إيران - التزم بهذا القرار، باستثناء الإشارة إلى الجريمة في تقارير إعلامية سنوية عابرة (هذا إذا تذكروها!!).

على أي حال، إن اهتمام المؤمنين الشيعة الإيرانيين بفلسطين و«المسألة اليهودية» لم يلبث، ومنذ مطلع ستينيات القرن الماضي، أن انتقل من حيّز الفقه والقصص الإسلامية التاريخية، الصحيحة منها والأسطورية، إلى حيّز السياسة العملية والتنظير السياسي والأيديولوجي في سياق الصراع ضد نظام الشاه، وفي سياق فهمهم للدور الذي كان يلعبه هذا النظام في الشرق الأوسط بالتحالف مع إسرائيل و الولايات المتحدة وبريطانيا. وهو ما وجد طريقه أيضاً إلى صفوف الشيعة العلمانيين الإيرانيين أيضاً (الأحزاب والمنظمات الوطنية واليسارية الماركسية) من المنظور نفسه (منظور صراع القوى الوطنية والديمقراطية الإيرانية مع الإمبريالية والعالمية وعملائها المحليين والإقليميين). ووفق جميع  المصادر والمراجع السياسية الخاصة بتاريخ إيران المعاصر (لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية)، وفي حدود ما تمكنت من الاطلاع عليه منها، وما فهمته من الأصدقاء الإيرانيين في منظمة «فدائيين خلق» (التي أنتجت فكراً «توليفياً» بين الإسلام الشيعي الكربلائي والماركسية)، يمكن الجزم بأن تحول القضية الفلسطينية وإسرائيل إلى موضوع مركزي ومحوري  في الخطاب الفقهي والسياسي التعبوي الإيراني لم يبدأ إلا مع «آية الله الخميني» مطلع ستينيات القرن الماضي، في سياق مواجتهه مع الشاه والقوى الإقليمية والدولية الداعمة له، لاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد بحثت طويلاً في الآثار السياسية للدكتور «محمد مصدق»، الرمز الأبرز لـ«البرجوازية الوطنية» الإيرانية آنذاك، عن أي وعي سياسي خاص لديه بالمسألة الفلسطينية وموضوع إسرائيل، إلا أنني لم أجد أي أثر لذلك، رغم أنه كان على علاقة وثيقة مع نظام «عبد الناصر» حتى إطاحة حكومته في الانقلاب الشهير صيف العام 1953بعد حوالي عام واحد فقط من تشكيلها(عملية «أجاكس» التي نفذتها المخابرات الأميركية والبريطانية). والحقيقة إن الإشارة الوحيدة التي تمكنت من العثور عليها، بشأن فلسطين قبل ذلك التاريخ، هي بيان لرجل الدين الشيعي النجفي البارز «محمد حسين كاشف الغطاء»(1877-1954)، الذي كان على علاقة وثيقة مع المفتي الفلسطيني الحاج «أمين الحسيني»، وزار فلسطين مراراً. وكان أصدر بيانه المذكور في حزيران /يونيو 1938 (على خلفية الثورة الفلسطينية الأولى / ثورة الشيخ «عز الدين القسام») وأعلن فيه أن «الجهاد في فلسطين فرض عين لا فرض كفاية»، قبل أن يتحول لاحقاً إلى هراوة وأداة للبريطانيين في محاربة الشيوعية والشيوعيين العراقيين!

عملية «أجاكس» وتحولات الفقه الشيعي الإيراني بشأن فلسطين وإسرائيل:

شكلت«عملية أجاكس» التي بدأت باعتقال رئيس الحكومة المنتخب الدكتور «محمد مصدق» وهدم منزله بالجرافات،منعطفاً لا سابق له في الحياة السياسية الإيرانية،نظراً لما كان (ولا يزال) يحتله هو وحزبه («الجبهة القومية») في وجدان وضمائرالإيرانيين على اختلاف انتماءاتهم الوطنية والدينية. ذلك لأنه نفـّذ فور وصوله إلى رئاسة الحكومة العديد من البرامج الاقتصادية - الاجتماعية لصالح الفئات الشعبية الفقيرة (الإصلاح الزراعي وإلغاء بقايا نظام السخرة في المزارع، برامج الإسكان والصحة في الريف ...إلخ)، ولصالح المصلحة الوطنية العليا، لاسيما قراره الشجاع بتأميم صناعة النفط التي كانت تهيمن عليها بريطانيا بالدرجة الأولى والولايات المتحدة بالدرجة الثانية. وكان هذا القرار ضربة موجعة جداً للمصالح البريطانية - الأميركية والسبب المباشر لإطاحته واعتقاله وتجريف بيته من قبل قائد الانقلاب الجنرال «فضل الله زاهدي» في آب / أغسطس 1953 بعد أقل من أقل من عام على انتخابه!

صحيح أنه كان للولايات المتحدة تواجد عسكري وأمني كبير في إيران منذ الحرب العالمية الثانية (حوالي 28  ألف جندي كانت مهمتهم الإشراف على إيصال المواد الحربية إلى الجبهة السوفييتية،عبر ما عُرف آنذاك بـ «المعبر الفارسي»، والعمل في مجال تشييد البنية التحتية الضرورية لدعم المجهود الحربي كالطرق والإتصالات والخدمات الطبية...إلخ )؛ إلا أن الانقلاب البريطاني -الأميركي فتح الباب واسعاً أمام تحويل إيران إلى مستعمرة حقيقية، بالمعنى الحرفي للكلمة، ليس للولايات المتحدة فقط، بل أيضاً لإسرائيل التي كانت تدخل إيران للمرة الأولى بهذا الشكل الكثيف والسافر. فبعد بضعة أسابيع فقط من حصول الانقلاب، تدفق رجال الـCIA  والموساد إلى إيران زرافات و وحدانا. وخلال فترة قصيرة لم تبق مؤسسة مدنية أو عسكرية، بما في ذلك حتى الوزارات والمديريات والإدارات الإقليمية المدنية، إلا وأصبح فيها ضابط  مشرف على إدارتها من وكالة المخابرات المركزية و/أو الموساد. وإذا كان نظام الشاه عرف تعاوناً محدوداً مع «الموساد» منذ تأسيس هذه الأخيرة في العام 1949، لكن هذا التعاون أخذ شكلاً لا سابقَ ولا لاحقَ له في أي مكان من العالم(ربما باستثناء الهند في زمن الزعيمة الصهيونية «أنديرا غاندي» التي أوكلت لإسرائيل إنشاء المخابرات الخارجية الهندية في العام 1968 ليكون على غرار«الموساد»!). فبعد انقلاب «زاهدي» وعودة الشاه من إيطاليا التي هرب إليها، أقدم هذا الأخير على تكليف الولايات المتحدة وإسرائيل ببناء جهاز استخبارات إيراني موحَّد يقوم بالمهام الداخلية والخارجية معاً، رغم أن إيران الشاه لم تكن اعترفت بإسرائيل بعد. وفي العام 1957 ، بعد أربع سنوات من التخطيط والعمل، جرى تأسيس «السافاك» الذي كان صناعة إسرائيلية على نحو شبه كلي، ولم تشارك الولايات المتحدة في بنائه إلا جزئياً. وكانت مهمته الأساسية حماية نظام الشاه ومراقبة المجتمع والمعارضة والجيش على حد سواء. إلا أن أبرز ما ميز «السافاك» هو وجود ضباط وخبراء «الموساد» في جميع مفاصله، وإدارة عمله الروتيني اليومي، بما في ذلك الإشراف المباشر على تعذيب المعارضين والتحقيق معهم، وتدريب ضباط الجهاز على تقنيات استجواب وتعذيب وتصفية هؤلاء جسدياً، إلى حد أن كثيراً من المعارضين الإيرانيين غالباً ما كانوا خلال استجوابهم والتحقيق معهم يجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام محققين إسرائيليين، وليس أمام ضباط من أبناء بلدهم! وعند هذا التطور بدأت المواجهة والاحتكاك المباشران للإيرانيين، لاسيما قوى المعارضة الدينية والوطنية والديمقراطية، مع إسرائيل وأجهزتها، وتحوَّل الصراع الفلسطيني - العربي/ الإسرائيلي إلى «قضية داخلية» إيرانية لا يكاد يوجد بيت إيراني واحد إلا ويشعر بها من خلال أحد أبنائه المعتقلين أو المفقودين أو القتلى. وهذا ما كان أول عامل من عوامل الكراهية الشعبية الإيرانية لإسرائيل، والتي حفرت عميقاً في نفوس الإيرانيين وذاكرتهم الجمعية قبل «الثورة» بأكثر من عشرين عاماً.

لم يتوقف انقلاب «زاهدي» البريطاني - الأميركي عند إطاحة حكومة الدكتور«مصدق» وإلغاء جميع القرارات الإصلاحية التي قامت بها، بل أدى إلى مذابح ومجازر حقيقية أسفرت في النهاية عن تشريد مئات الألوف من المعارضين وعائلاتهم وتصفية الآلاف منهم، بمن في ذلك أعضاء «الحزب الشيوعي الإيراني» (توده) الذي كان يقف ضد حكومة «مصدق» وضد قرار تأميم صناعة النفط! وكان موقفه الرجعي اللاوطني هذا، نزولاً عن أوامر «ستالين» الذي كان يريد الاستيلاء على النفط الإيراني، أحد الأسباب الرئيسة لانقراضه وزواله شبه النهائي من الحياة السياسية الإيرانية العامة حتى قبل «الثورة الخمينية» بسنوات طويلة. فحين قامت «الثورة» في العام 1979، وبخلاف الخرافات الرائجة في العالم العربي عن أن «الخميني» قمع «توده»، كان الحزب تبخر منذ سنوات طويلة ولم يبق سوى حفنة من أعضائه لا يتجاوز عددهم (داخل إيران وفي المنافي) خمسة آلاف عضو، بمن في ذلك أنصاره في النقابات العمالية والحرفية والزراعية، رغم أن عدد أعضائه كان وصل إلى خمسين ألفاً حين وقوع الانقلاب ضد حكومة «مصدق» في العام 1953. أي أن قرابة 95 بالمئة من أعضائه وأنصاره كانوا تبخروا قبل «الثورة الخمينية» بحوالي ربع قرن، وفق وثائق وكالة المخابرات المركزية التي تعتمد على سجلات «السافاك» و«الموساد»(5)! وكانت هذه إحدى تجليات ونتائج التخريب الأيديولوجي والسياسي الإجرامي السوفييتي في صفوف الأحزاب الشيوعية وحركات التحرر الوطني في العالم كله قاطبة، من أندونيسيا والصين شرقاً إلى كوبا وتشيلي غرباً، وليس في إيران وحدها.

بخلاف الحزب الشيوعي الرجعي التافه، الذي فقد جماهيره واحترامه وطنياً كبقية الأحزاب الشيوعية العميلة لموسكو في كل مكان من العالم ، كانت حركة «فدائيين خلق»(«سازمان چريکهای فدايي خلق إيران»/ منظمة فدائيي الشعب الإيراني)، التي جاء معظم أعضاء جيلها التأسيسي من أصول وخلفيات دينية، تمكنت أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات من إعادة إنتاج الماركسية على أرضية سياسية ومعرفية وطنية - طبقية، عبر مزاوجتها مع فكر «لاهوت التحرير الشيعي - الحسيني»، إذا جاز التعبير، وبالتالي توليد ظاهرة سياسية شعبية فريدة من نوعها في العالم الإسلامي. وكان اعتمادها الكفاحَ المسلح ضد نظام الشاه، منذ ما قبل انقلاب «زاهدي»، ثم بعده، و دعمها لحكومة «مصدق»، طريقَها إلى قلوب الناس، بخلاف «توده» الذي لم يتردد حتى في التحالف مع «آية الله أبو القاسم كاشاني»، الذي كان يعارض «مصدق» ويعارض تأميم النفط، وكانت تعدّه المخابرات البريطانية ليكون بديلاً عن «الإسلام الثوري الحسيني» ولقطع الطريق على أي عملية ثورية حقيقية تُخرِج إيران من دائرة النفوذ والهيمنة الأميركية والبريطانية.

أسفر انقلاب«زاهدي» أيضاً عن كارثة إنسانية - اجتماعية واسعة وعميقة  في إيران. فبالإضافة إلى تصفية واعتقال آلاف المعارضين، وتحول عشرات أو مئات الآلوف من أفراد أسرهم إلى مشردين داخل بلدهم، وبلا أي معيل أو مصدر دخل، فرّ حوالي 50 ألف شاب بأرواحهم إلى البلدان المجاورة (العراق والكويت) ومنها إلى أوربا. وهؤلاء سيصبحون ثلاثة أو أربعة أضعاف عددهم عند اندلاع «ثورة 1979»، وسيكون منهم معظم العائدين من الخارج بعد انتصارها، بمن فيهم معظم أركان ومؤسسي النظام الجديد. وكان في مقدمة هؤلاء شاب مهندس اسمه «مصطفى شمران» سيصبح عالماً في «فيزياء البلازما والهندسة الكهرطيسية» في جامعة «بيركلي» الأميركية ، وأحد مؤسسي الخلايا التي ولد منها «حزب الله» اللبناني لاحقاً، ثم أول وزير دفاع بعد انتصار «الثورة»، وبعد أن كان الجاسوس البريطاني - الأميركي المخضرم «محمد حسنين هيكل» سبباً في طرده من مصر(6)!

النتيجة الأهم من ذلك، والتي ستلعب دوراً حاسماً في تحديد مسار تاريخ إيران فيما بعد، هو انكفاء جميع معارضي الشاه،الذين بقوا في البلاد،من طهران وبقية المدن الإيرانية التي اجتاحها جيش الشاه وجحافل عملاء وكالة المخابرات المركزية والموساد،إلى مدينة «قم»، التي أصبحت منذ تلك اللحظة «عاصمة الثورة الشعبية وحصنها وغرفة عملياتها»، بسبب مكانتها المقدسة وعدم قدرة الشاه - كما كان معارضوه يعتقدون - على اقتحامها كما فعل في المدن الأخرى. وهذا ما أدى عملياً وبقوة الأمر الواقع إلى أن يصبح التيار الديني هو طليعة تلك «الثورة» منذ ذلك الحين، بدلاً من «الجبهة القومية» و التيارات والأحزاب الوطنية والديمقراطية الأخرى التي كانت بيئتها الأساسية من أبناء الفئات الوسطى والعمال في المدن الكبرى و المناطق الصناعية (لاسيما حقول ومنشآت تكرير و توزيع النفط والشركات الصناعية الغربية).

الصدام الخميني-الشاهنشاهي الأول على الخلفية الإسرائيلية

في ذلك الوقت كان هناك رجل دين يدعى «روح الله الموسوي الخميني»، الذي كان شبه مغمور خارج الأوساط الدينية الضيقة. وقد أقدم الرجل على إنشاء «صندوق الإغاثة والمساعدات» لجمع التبرعات لصالح آلاف الأسر التي شردها القمع، وآلاف الأرامل وشبه الأرامل اللواتي قتل أو اعتقل أزواجُهن على أيدي «السافاك»  و«الموساد». وقد وجه «الخميني» نداءً وخطابات إلى جميع قادة العالم الإسلامي (من مصر والسعودية غرباً إلى أندونيسيا شرقاً) لرفد الصندوق بالمساعدات؛ إلا أن جميعهم رفضوا الاستجابة، باستثناء «عبد الناصر» الذي أمر «عبد الحميد السراج» (ممثله في سوريا/ الإقليم الشمالي من دولة الوحدة) بتحويل الأموال لصالح الصندوق. لكن «الأمن العام اللبناني»، الذي كان أحد قلاع وكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط ، تمكن ذات مرة من اكتشاف نقل 150 ألف دولار عبر لبنان، فأبلغ نظام الشاه بذلك. وحين وصل حامل المبلغ («عبد القيس الجوجو») إلى مطار طهران، قادماً من مطار بيروت، اعتقله رجال «السافاك» وصادروا منه المبلغ قبل أن يعترف (تحت التعذيب، لأن الشاه كان يريد تفجير «فضيحة» ضد مصر) أن مصدره هو «عبد الناصر». وقد اعترف «الخميني» بعد عودته إلى طهران في العام 1979 بأن الجهة الوحيدة التي ساعدته فعلاً لمواجهة المحنة التي تسبب بها انقلاب «زاهدي» هي «مصر/عبد الناصر».

فور ضبْط المبلغ واعتقال حامله، ألقى الشاه خطاباً تطرق فيه إلى الواقعة وسأل جمهوره :«ما رأيكم برجل دين شيعي يقبل مساعدات من المسلمين السنة في مصر لإسقاط نظام بلاده والتآمر عليه؟». ورغم أنه لم يذكر«الخميني» بالاسم، إلا أن هذا الأخير فهم أنه هو المقصود، فما كان منه إلا أن أجابه في اليوم التالي من فوق منبر الحوزة :« أنا لست في حاجة للنقود، لأن الهبات التي تأتي من الحوزة [زكاة الخُمس] تغطي احتياجاتها كلها. وأما النقود التي أرسلها عبد الناصر فكانت من أجل سد احتياجات الأرامل واليتامى الذين ترملوا وتيتموا جراء إجرام حكم الشاه وحكم أبيه من قبله. وإني أنتهز هذه الفرصة لأعلن نهاية التقية [ السياسية وبدء المواجهة العلنية السافرة]". وكان «الخميني» أول من يفعل ذلك في تاريخ الحركة السياسية الشيعية قاطبة. وفي عريضة رفعت إلى الشاه، كان هو من كتبها، دعاه إلى «تحطيم سلاسل العبودية التي تربطه بأميركا وعدم التضحية بمصالح الشعب لصالح الصهيونية والولايات المتحدة». وكانت المرة الأولى التي يجري فيها التطرق إلى الصهيونية، رغم أنه كان أول إيراني يقف ضد إقامة «دولة لليهود» في فلسطين فور إعلانها في أيار / مايو 1948. وشكلت العريضة تحولاً في الفكر السياسي الديني الإيراني، النظري منه والعملي،على مستوى التمييز ما بين اليهودية والصهيونية. وهذا ما سيتكرس بعد انتصار «الثورة»،بما في ذلك فتح قنوات مع مناضلي القوى والجماعات اليهودية المعادية للصهيونية وإسرائيل (مثل حركة «ناتوري كارتا»)، ودعوة رموزها ومثقفيها إلى إيران بشكل دائم.

لم يردّ الشاه على العريضة مباشرة، لكنه أرسل ضابطاً من «السافاك» لمقابلة «الخميني» وتقديم عرض له يتضمن جزرة وعصا غليظة (إغراءً وتحذيراً). وكان لافتاً أنه لم يطلب منه سوى «التوقف عن مهاجمة الولايات المتحدة وإسرائيل، مقابل السماح له بقول وفعل كل ما يريده، بما في ذلك مهاجمة الشاه والنظام نفسيهما»! بتعبير آخر، كان الشاه على استعداد لأن يقبل تقريع «الخميني» له ولنظامه شريطة أن لا يهاجم حُماته الأميركيين والإسرائيليين! أما جواب «الخميني» على العرض فلم يُرسل في ذلك اليوم سراً مع ضابط «السافاك» الموفد إليه، وإنما علناً في اليوم التالي من فوق منبر «مسجد فاطمة المعصومة» في مدينة «قم». ففي خطبته كشف «الخميني» عن زيارة ضابط «السافاك» له وما عرضه عليه الشاه، قبل أن يتساءل:« لماذا لا يسمح لي الشاه بمهاجمة إسرائيل؟ هل أبُ الشاه إسرائيلي وأمه إسرائيلية وليس لنا علم بالأمر؟ ولماذا لا يسمح لي بمهاجمة الولايات المتحدة؟ هل علينا أن نسبح بحمد من يستعبدنا؟». وختم تساؤلاته بالقول :«يا ابن الأميركيين والإسرائيليين، تذكّر أني لم أعدّ قلبي لكي يتقبل إنذاراتك، وإنما لتلقي رماحك»!

كانت الخطبة نقطة انعطاف تأسيسية أخرى في المواجهة بين الطرفين، لاسيما وأن حديث «الخميني» عن الشاه كان مهيناً - بالمعنى الشخصي، فضلاً عن السياسي - على نحو غير مسبوق في تاريخ الدولة البهلوية كلها منذ أن أسسها أبوه في العام 1925 على أنقاض السلالة القاجارية. فقد كانت صيغة الخطاب أشبه بما لو أنه يقول له «يا ابن العاهرة» أو «يا ابن الحرام»، حسب التعبير الشرعي! وبالتوازي مع هذا الرد، بدأ «الخميني» حملة تحريض ضد الشاه ومن وصفهم بـ«حماته الصهاينة»، وخاطب رجال الدين قائلاً : «اعتباراً من اليوم لم يعد هناك من خيار سوى أن تكونوا إما معنا ضد الشاه وحماته الصهاينة، وإما مع الشيطان الأميركي الأكبر وابنه الإيراني [الشاه]». وكانت تلك هي المرة الأولى التي يستخدم فيها تعبير الشيطان الأكبر،الذي أصبح لازمة في خطاباته كلها حتى موته، و«شعاراً شعبياً ورسمياً وطنياً» من منذ وفاته حتى اليوم.

لم يتأخر الانفجار الكبير عن الحصول. ففي 21 آذار/ مارس 1963 (رأس السنة الفارسية)، الذي صودف أيضاً أنه 25 شوال 1382، ذكرى وفاة الإمام السادس للشيعة الإثني عشرية والإسماعيلية،ومؤسس المذهب «جعفر الصادق»، استغل «الخميني» المناسبة لتدشين مرحلة جديدة من التعبئة والتحشيد ودفع المواجهة إلى مستوى أعلى، فأرسل الشاه جيشه وشرطته ورجال مخابراته إلى «قم» لقمع الناس بالحديد والنار تحت إشراف مستشارين أميركيين وإسرائيليين كانوا يرابطون على مشارف المدينة. وخلال بضع ساعات وحسب كانت شوارع «قم» تحولت إلى بركة من الدماء بعد أن سقط 22 شخصاً من المتظاهرين بنيران القوات المهاجمة، فضلاً عشرات الجرحى ومئات المعتقلين. لكن حتى تلك اللحظة لم يكن هناك أمر باعتقال «الخميني» نفسه، الذي سُمح له بالتوجه إلى منزله. وقد تصدرت أخبار المذبحة حتى عناوين الصحف الغربية نفسها،الأمر الذي دفع زعماء «النجف» في العراق إلى دعوة «الخميني» وزملائه للمجيء والإقامة عندهم. لكن «الخميني» رفض الدعوة وأعلن أنه «لن يتخلى عن مسؤولياته، فإما أن يكون من الشهداء أو من الظافرين». وقد تبين لاحقاً، كما سيكتب أول قنصل عام لألمانيا الديمقراطية في بغداد في العام 1963،فالتر هوخموتWalter Hochmuth، وكان ضابطاً في المخابرات الخارجية كالعادة، أن الدعوة كانت حصيلة «مؤامرة» بين الشاه والأميركيين وزعيم الحوزة النجفية «آية الله محسن الحكيم» والبعثيين العراقيين الذين كانوا أطاحوا نظام «قاسم» الوطني في الشهر السابق (شباط /فبراير 1963) بعد أن جاؤوا على متن قطار وكالة المخابرات المركزية. وكانت غاية الأميركيين وحلفائهم إخماد الانتفاضة الإيرانية وجذوة المعارضة من خلال إخراج «الخميني» من إيران ليكون في إقامة شبه جبرية في «النجف»، وبالتالي تحت رحمة ورقابة النظام البعثي الجديد. ومن المعروف أن «الحكيم» ( الذي تتلمذ على يديه المفتي الحالي للحلف الأطلسي و وكالة المخابرات المركزية، «آية الله علي السيستاني» )اشتهر برجعيته المقيتة و«داعشيته» المبكرة وبفتواه الشهيرة في العام 1959 ، التي دعا فيها إلى ذبح «الشيوعيين العراقيين الكفار» (بناء على طلب السفير الأميركي في العراق آنذاك جون دورنفورد جيرنيغان John Durnford Jernegan ، بهدف عزل الزعيم العراقي «عبد الكريم قاسم» عن قاعدته الشيوعية الكبيرة، لاسيما في الوسط الشيعي الذي كان أكبر حاضنة للحزب الشيوعي العراقي)!

بعد ذلك بستة أسابيع، وتحديداً في 4 حزيران / يونيو، الذكرى الأربعين لقتلى «قم»، وبعد أن حاولت قوات الشاه منع إقامة مجلس عزاء جماعي لهم، ألقى «الخميني» خطبته الأعنف حتى ذلك اليوم في«المدرسة الفيضية»، موجهاً خطابه إلى الشاه شخصياً. وفي خطبته هذه  وصف الشاه بأنه«ابن الشيطان الأميركي الكبير والشيطان الصهيوني الصغير»، وخاطبه قائلاً :«اسمع أيها التعيس! لقد عشتَ حتى الآن 45 عاماً، فتوقف وتأمل بما قمتَ به من أجل بلادك،وليكن مصير أبيك درساً وعبرة لك». وختم خطابه - كالعادة - بالحديث عن «الشيطان الأكبر» و «الجرثومة الصهيونية» و«الغدة السرطانية الإسرائيلية»، وهي تعابير اشتهرت لاحقاً بعد انتصار«الثورة». أما حديثه عن مصير والد الشاه («رضا بهلوي») فكانت إشارة إلى واقعة عزل هذا الأخير ونفيه في العام 1941 من قبل قوات «الحلفاء» بعد أن أظهر دعمه لـ «هتلر» و«النازيين». ومن المعلوم أن «رضا بهلوي» مات في جنوب أفريقيا بعد أربع سنوات على إطاحته، وبعد سلسلة من عمليات النفي التي قادته إلى الهند وجزيرة موريشيوس في المحيط الهندي. وكان في تحذير «الخميني» هذا «نبوءة» ستتحق حرفياً بعد أقل من عشرين عاماً،حيث مات الشاه الابن منفياً، كما أبيه ، ولكن في ضيافة «السادات» في مصر!

ما إن انتهى «الخميني» من إلقاء خطبته، التي بدأها بشن هجوم على قرار الشاه تحويل التقويم الرسمي من «الهجري» إلى «الفارسي»، والعمل على استبدال الأحرف العربية بالحرف اللاتيني (على غرار ما فعل «كمال أتاتورك» في تركيا)، وختمها بوصف الشاه بـ «الجاسوس والعميل الإسرائيلي»، حتى جرى اعتقاله وتقييده بالسلاسل فجر اليوم التالي، الأمر الذي فجّر المظاهرات في طهران والمدن الكبرى الأخرى على نحو غير مسبوق في عنفها منذ انقلاب الجنرال «زاهدي» ضد حكومة «مصدق» قبل ذلك بعشر سنوات، وهو ما سيعرف لاحقاً باسم «انتفاضة 15 خرداد» التي أصبحت بمثابة «بروفة تدريبية» على «ثورة العام1978- 1979». وكما حصل في «قم» قبل ستة أسابيع من ذلك، انتهى الأمر إلى مذبحة،ولكن أكثر وحشية،حيث قتل ما بين 400 إلى 500 من المتظاهرين برصاص عناصر الجيش والسافاك الذين كانوا - كالعادة - تحت إشراف ضباط الـCIA والموساد. وفي معمعة الغليان،أقدم أحد أعضاء حركة «فدائيي خلق» على اغتيال رئيس الوزراء حسن علي منصور!

كان اعتقال «الخميني» مأزقاً حقيقياً لجميع الأطراف، كل من زاويته، خصوصاً بعد أن أدى إلى اندلاع انتفاضة في عموم أنحاء إيران. ولأن الدستور (الذي وُضع كنتيجة لـ «ثورة المشروطة / الثورة الدستورية» خلال الأعوام 1905-1911) كان يمنع اعتقال من يحمل درجة «آية الله العظمى» (الموازية لدرجة ما بعد الدكتوراه أو البروفيسور في التعليم المدني)، سارع عدد من «آيات الله» إلى إجازة أطروحته التي كان تقدم بها منذ فترة لنيل هذه الدرجة، وبالتالي حصوله على لقب «آية الله العظمى»، الأمر الذي أرغم الشاه على إطلاق سراحه،ولكن مع إبقائه في الإقامة الجبرية لأكثر من عام. وكان من حسن حظه وحظ أنصاره أنه لم يكن هناك سوى أربعة يحملون هذه الدرجة الفقهية آنذاك، فكان بالإمكان منحه هذا اللقب الفقهي، لأن الفقه الشيعي لا يسمح بوجود سوى خمسة فقط يحملون هذه الدرجة الفقهية في وقت واحد. لكن الشاه وحماته لم يكن باستطاعتهم قبول بقائه في البلاد، فجرى ترحيله سراً وقسراً إلى تركيا أوائل نوفمبر 1964 قبل إلقائه في منطقة حدودية مقفرة. وبقي قيد الإقامة الجبرية في مدينة «بورصة» تحت حراسة المخابرات العسكرية التركية حتى 5 أيلول/سبتمبر 1965 حين توجه إلى النجف في العراق، قبل أن تلحق به زوجته العربية - الحجازية «خديجة الثقفي»(تنحدر من مدينة «الطائف»). وفي 6 تشرين الأول / أكتوبر 1978، أقدم «صدام حسين»، حاكم العراق الفعلي آنذاك، على ترحيله إلى فرنسا بناء على طلب مشغليه الأميركيين.

خضعت إقامته في العراق إلى شرطين مختلفين. فخلال فترة حكم «عبد السلام عارف» وأخيه، المحسوبين على الناصرية و وثيقي الصلة بنظام «عبد الناصر»، قُدِّمت له - بتوصية من هذا الأخير - تسهيلات في الحركة والإعلام، بما في ذلك إنشاء إذاعة موجهة ضد الشاه. لكن ما إن عاد البعثيون الأميركيون إلى السلطة مرة أخرى في انقلابهم الثاني في تموز / يوليو 1968 حتى تبدلت الأمور، لكن ليس إلى حد تقييد حريته كلياً، نظراً لخلافات العراق مع الشاه على خلفية دعمه لأكراد العراق. فقد سُمح له بالاستمرار في التدريس واستقبال الطلاب من مختلف دول العالم الإسلامي في حوزته، فضلاً عن قادة من حركات تحرر وطني مختلفة، لاسيما من الفصائل الفلسطينية. ويتضمن إرشيف استخبارات ألمانيا الشرقية ثلاث وثائق نادرة غير معروفة عن مرحلته العراقية،واحدة منها بتوقيع ««زانفتر شميت Sanfter Schmied»(الاسم الكودي الألماني الشرقي للقائد الشهيد «وديع حداد»)، واثنتان بتوقيع السفيرغونتر شورات . Günter Schurath وتتعلق هذه الوثائق بلقاءات حصلت في العامين 1973 و 1975 بين «حداد» من جهة و«الخميني» ومساعديه من جهة أخرى، في «مرقد الإمام الكاظم» في بغداد، فضلاً عن لقاءات أخرى ضمت قادة فلسطينيين من حركة «فتح». ويمكن الاستنتاج من هذه الوثائق أن التعاون العملي بين «الخميني» والمعارضة الإيرانية المنفية من جهة وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية (لاسيما «الجبهة الشعبية» و«فتح») بدأ في تلك الفترة. فالوثائق تتضمن الحديث عن استقبال مقاتلين من «فدائيي خلق» في معسكرات«الجبهة الشعبية» و«فتح» في لبنان للحصول على تدريب عسكري. وفي فترة إقامته في العراق أنتج أهم نصوصه السياسية والفقهية المتعلقة بإسرائيل والصهيونية، وعلى رأسها فقه «التحريم الشرعي للتعامل معها» و« تحريم قبول بقائها» و«وجوب العمل على إزالتها كفرض عين على كل مسلم». 

قرار أميركي - عراقي بإبعاده إلى فرنسا : «الأسد» يتطوع لاستقبال «الخميني» و وضعه في «الإقامة الجبرية»!

في  أيلول / سبتمبر 1978، كان مرّ على اندلاع الانتفاضة الشعبية الإيرانية قرابة عام كامل بعد أن أطلقتها شرارة اغتيال الابن الأكبر لـ«الخميني» (مصطفى) على أيدي «السافاك»، واغتيال المفكر الإسلامي «علي شريعتي» في لندن على أيدي عملاء الشاه بالتعاون مع الموساد وتواطؤ المخابرات البريطانية). وفي 24 من الشهر نفسه عقد وزير الخارجية العراقي «مرتضى عبد الباقي الحديثي» ونظيره الأميركي «سايروس فانس» اجتماعاً في نيويورك للبحث  في وضع «الخميني» والطريقة الأمثل لإبعاده عن العراق بعد أن أصبح وجوده ونشاطه يشكل تهديداً جدياً لنظام الشاه، بسبب قربه من إيران وتحول مقر إقامته إلى مركز استقطاب ليس للمعارضة الإيرانية فقط، بل وحتى للعراقيين أنفسهم. وكان الاجتماع بمبادرة من الرجل القوي «صدام حسين»، الذي كان أقدم على تسميم القائد الفلسطيني «وديع حداد» قبل ذلك ببضعة أشهر لصالح مستشار الأمن القومي الأميركي «زبغنيو بريجنسكي» (ومن خلاله لصالح «الموساد»، كما رأينا في الوثائق الألمانية ذات الصلة، التي ترد في ملحق وثائق هذا الكتاب).وتشير الوثائق الألمانية والأميركية إلى أن الاجتماع درس مجموعة من الخيارات،بما فيها إبعاد «الخميني» إلى الكويت أو سوريا أو البحرين أو الجزائر أو الهند أو باكستان. ولكن جميع هذه الدول رفضت استقباله لسبب أو لآخر، باستثناء سوريا، بينما سارعت الكويت إلى إغلاق حدودها مع العراق احترازياً. وتشير وثائق مخابرات ألمانيا الشرقية إلى أن «الأسد»، وفي سياق التعاون السياسي والأمني الذي كان بدأه مع «كيسنجر» منذ العام 1974 ،مقابل خدمات سياسية أميركية للنظام السوري في لبنان و 100 مليون دولار كانت تدفعها الولايات المتحدة لسوريا منذ زيارة «نيكسون» و«كيسنجر» إلى دمشق صيف ذلك العام كما كانت «نيويورك تايمز» كشفت في 17 حزيران/ يونيو 1974، اقترح على الولايات المتحدة استضافة «الخميني» في «السيدة زينب»(المكان الذي يضم الحرم المقدس للشيعة في ريف دمشق). كما وتشير هذه الوثائق إلى أن الشاه نفسه، الذي كان أبرم علاقة صداقة وتعاون مع «الأسد» منذ بضع سنوات، بعد أن كلفه «الأسد» بفتح قناة مفاوضات سرية مع إسرائيل حين زار طهران مطلع العام 1976، طلب هو أيضاً من الرئيس السوري استضافة «الخميني» في سوريا. وبحسب إفادة كل من «محمد الخولي» و «عبد الحليم خدام»، كما يرد في برقية للسفيرالألماني الشرقي في دمشق هاينز- ديتر فينتر Heinz-Dieter Winter ))، فإن «الأسد» تعهد للشاه والأميركيين بأن يمنع «الخميني» من ممارسة أي نشاط سياسي في سوريا،وأن يحصر نشاطه في دروسه الدينية فقط. وأشار «خدام» في إفادته إلى أن ثمة دافعاً آخر وقف وراء عرض الأسد باستقبال الخميني في سوريا، سوى طلب الشاه و واشطن، هو«شعوره بأن أيام الشاه قد شارفت على الانتهاء، وأنه حتى لو بقي في السلطة، فإنه سيتحول إلى ملك دستوري يملك ولا يحكم، وأن السلطة الحقيقية ستؤول إلى أيدي القوى الوطنية التي يشكل الخميني وأنصاره عمودها الفقري. وهذا من شأنه أن يعدّل ميزان القوى في المنطقة ويعوّض عن خسارة مصر بعد زيارة السادات لإسرائيل وانتقاله إلى الخندق الأميركي - الإسرائيلي». لكن المفاجأة أن «الخميني» رفض التوجه إلى سوريا،رغم أنه كان يميل إلى ذلك في البداية. وكان سبب تغيير رأيه معرفته بأمرالاتصالات بين «الأسد» والشاه والأميركيين، في وقت اقترح عليه أقرب مساعديه «ابراهيم يزدي» (الذي أصبح أول وزير خارجية بعد سقوط الشاه) أن يتوجه إلى فرنسا، لأنها تتيح له مجالاً أكبر للاتصال مع وسائل الإعلام والتواصل مع عشرات آلاف الإيرانيين المنفيين في فرنسا وأوربا بخلاف الوضع في أي بلد عربي أو إسلامي. وكان للفرنسيين من جهتهم حساباتهم المصلحية الخاصة في استقباله، بعد أن أدركوا قوته من خلال الملايين التي يحركها وهي ترتدي الأكفان استعداداً للموت منذ أكثر من عام في شوارع إيران، وأنه يمكن أن يكون هو حاكم إيران المستقبلي،و إمكانية التأثير على السياسة الإيرانية، خصوصاً وأن الشعب الإيراني لا يحمل لفرنسا أي ضغينة ، نظراً لأنه لم يكن لها تاريخ استعماري أو إجرامي في إيران على غرار بريطانيا والولايات المتحدة. وفي 11 أكتوبر 1978، بعد أقل من شهر على الاتصالات الأميركية - العراقية -السورية، وصل «الخميني» إلى منفاه الجديد في ضاحية «نوفيل لو شاتو» غربي باريس،رغم أن السلطات الفرنسية منحته سمة دخول وإقامة صالحة لستة أشهر فقط. ويبدو من برقية للسفير الألماني الشرقي في باريس  فيرنر فليك Werner Fleckبتاريخ 28 سبتمبر 1978 أن الفيلسوف اليساري الفرنسي الشهير«ميشيل فوكو»، المتأثر بالأفكار«الماوية العالم - ثالثية»، وبعد أن زار إيران مراراً ونشر العديد من التقارير عن الانتفاضة الشعبية في صحيفتي «كورير ديلا سيرا» و«لو نوفيل أوبزرفاتور»،هو من نصح الإدارة الفرنسية باستقبال«الخميني»دون أي تأخير«لأن المستقبل في إيران هو للإسلام الروحاني العرفاني الشيعي الذي يختلف عن الإسلام الأصولي السني الذي ترعاه الولايات المتحدة، وأن شمس الولايات المتحدة وبريطانيا في إيران شارفت على المغيب»، كما قال للسفير الألماني الشرقي.

 «الخميني» في «لونوفل لو شاتو» تحت حراسة فلسطينيين من «فتح» و«الشعبية» ورقابة إيجابية من استخبارات ألمانيا الشرقية!

.......................................

........................................

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) ـ  مقاطع مختارة من كتاب يبحث عن ناشر، انتهى منه كاتبه في 10 آذار / مارس 2025 : « نزار نيوف : عشرة آيام هزّت بلاد الشام ... نظام الأسد قياماً وركاماً» ، اختارتها مشرفة هذا الموقع «فيكتوريا العُزَيْزي»، على خلفية الحرب الإسرائيلية، بموافقة المؤلف.

(1) ـ ربيع العام 2008، أصدرت «حركة العدالة والبناء» السورية ذات الخلفية الأخونجية كتاباً عن «التبشير الشيعي في سوريا». وفي 22 أبريل 2008 ، عقد زعيم المجموعة، العميل الإسرائيلي «أنس العبدة»، مؤتمراً صحفياً في لندن للترويج للكتاب. وتبين لاحقاً أن الكتاب ليس في الواقع سوى ترجمة لتقرير/ كراس كانت أعدته «الوحدة 8200» في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قبل ذلك بهدف توزيعه على عملائها في العالم العربي لاستخدامه في فبركة الأخبار والتحريض على طهران. ومن المعلوم أن «حركة العدالة والبناء» - وهنا المفارقة المذهلة - ولدت قبل ذلك بعامين برعاية «هيثم مناع» من خلال مؤتمر صحفي عقده في لندن مع صديقه آنذاك «أنس العبدة» بتاريخ 11 أيار / مايو 2006! وقد تبين لاحقاً أن «العبدة» دشّن قناة تواصل مع الإسرائيليين من خلال المستعربة اليهودية - الصهيونية التشيكية يانا هيباتشكوفا Jana Hybášková،رئيسة لجنة العلاقات الأوربية-الإسرائيلية في البرلمان الأوربي (2004-2009)، التي كان يلتقيها في بروكسل بشكل متواتر! وفي العام نفسه، كما أصبح واضحاً من خلال وثائق «ويكيليكس» و «واشنطن بوست»، كان «العبدة» – إلى جانب «رياض الترك» – من تلقى تمويل وكالة المخابرات المركزية (10 ملايين دولار) لصالح «إعلان دمشق».

(2)ـ بخلاف الرواية السائدة، فإن حرب النبي على يهود خيبر وغيرهم من اليهود العرب لم تكن لسبب ديني، بل سياسي واقتصادي، خصوصاً بعد أن رفضوا الاعتراف به كسليل و وريث لأنبياء التوراة ، وهذا ما كان النبي يجهد للحصول عليه منهم منذ هجرته إلى يثرب للاحتماء بهم باعتبارهم أخواله، ولأنهم رفضوا تمويل حربه على «الملأ التجاري المكي» ، نظراً لعلاقتهم التجارية والمصرفية التحالفية القوية مع مكة، وخصوصاً «أبو سفيان» و«قريش» ككل، ولا يريدون أن يخسروها.  وكانوا يعتقدون أن المشروع السياسي لهذا «الهاشمي القريشي مدّعي النبوة»،وحفنة المشردين اللاجئين معه، لا آفاق له، وسيُهزم كما هُزمت مشاريع سابقة عليه في الجزيرة العربية. 

(3) ـ كان الخليفة «عمر» متواضع وبسيط المعرفة على مستوى ثقافته الدينية والفقهية الإسلامية وغير الإسلامية، بخلاف مواهبه ومؤهلاته البارزة الأخرى كرجل دولة وسياسي وإداري فذ لم يتردد في تعطيل أحكام القرآن نفسه حين رأى مصلحة عامة في ذلك، كما فعل بشأن «حد السرقة» و قضية توزيع أراضي سواد العراق على الجند الفاتحين. ولهذا كان يستشير«علي بن أبي طالب» وآخرين في مسائل الفقه والتشريع الإسلامي دائماً. وعلى هذه الخلفية نُقل عنه قولـُه الشهير«لولا علي لهلك عمر»(بعد أن منعه «علي» من رجم «امرأة مجنونة لأنها زنت»، كما يخبرنا «ابن تيمية» في «منهاج السنة» نقلاً عن «ابن مسعود» و«أبو داود»). أما آية «حد الرجم» التي سقطت من «سورة الأحزاب»، كما أكدت السيدة «عائشة بنت أبي بكر»، فإنها مأخوذة من «التوراة» التي نصت 23 مرة على رجم النساء. وأما في مجال «الإسرائيليات القرآنية» فقد اتخذ «عمر» من الحاخام «كعب بن ماتع الحميري» مستشاراً وأستاذاً له لشرح تلك القصص التي استمدها القرآن  والحديث النبوي من التوراة و الأدب التلمودي (قصص «المدراش» و شروحات «المشناه» و«الجمارة»...إلخ) الذي كان منتشراً في الجزيرة العربية منذ أن هرب يهود فلسطين من «إيلياء» في القرن الأول الميلادي بعد هزيمتهم على يد القائد الروماني «تيتوس». ولعل هذا ما يفسر «موافقات عمر»، أي مشاركته في «تأليف» القرآن، حيث كان يخرج بأقوال وأحكام بليغة، وسرعان ما تأتي آية قرآنية تتضمن عبارة «عمر» حرفياً كما قالها للنبي!؟ والتدقيق في «الموافقات» يظهر أنها في أغلبها من الإرث التناخي- التلمودي، من مثل ما يتعلق بـ «مصلى ابراهيم» (الترمذي: كتاب المناقب، 3680؛ السيوطي :تاريخ الخلفاء، 99-101؛ البخاري : أبواب القبلة،393 ؛ الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، ج2، 395..إلخ). وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بعض القبائل اليهودية العربية الحجازية كان من سلالة العائدين في القرن السادس قبل الميلاد من «السبي البابلي» مع «زروبابل» إلى الحجاز، وليس إلى فلسطين كما يدّعي الأدب القصصي التناخي،ومع النبي «عزرا/ عزير» بعد ذلك بحوالي مئة عام، في القرن الخامس ق.م.). ومن المعلوم أن الحاخام «كعب بن ماتع الحميري» أصبح لاحقاً مستشاراً دينياً أيضاً لـ «معاوية بن أبي سفيان»، حين كان هذا الأخير لا يزال والياً على الأردن والشام (641-661م)، وقبل أن يصبح أول خليفة أموي.

(4) ـ يُنسب «مالك بن صعصعة» إلى قبيلة «بني النجار» العربية اليثربية التي كانت تدين باليهودية وتمارس طقوسها كلها، بما في ذلك الختان. ومن المعلوم أن والدة النبي «آمنة بنت وهب» كانت يهودية وتنتسب للقبيلة نفسها، ولم تكن «وثنية كافرة»، كما يزعم معظم مؤرخي وفقهاء المسلمين السنة. وكذلك الجدة العليا للنبي من ناحية أبيه، «سلمى بنت عمرو»، زوجة «هاشم بن عبد مناف»، التي كانت يهودية أيضاً ومن القبيلة نفسها. و طبقاً للشريعة اليهودية يعتبر «النبي محمد» يهودي الأصل كون أمه كانت كذلك.

(5) ـ لمراجعة وثائق وكالة المخابرات المركزية و«السافاك» عن الحزب الشيوعي الإيراني، راجع أرشيف «الوكالة»:

https://web.archive.org/web/20170123013255/https://www.cia.gov/library/readingroom/docs/CIA-RDP81B00401R000500110043-1.pdf   

وكذلك كتاب «بين ثورتين» لعالم الاجتماع والمؤرخ الأميركي- الإيراني الصديق «إرفاند أبراهاميان»:

https://archive.org/details/iranbetweentwore00abra_0

(6) ـ جاء الدكتور «مصطفى شمران/ جمران» من الولايات المتحدة إلى مصر في عهد «عبد الناصر» لتلقي التدريب العسكري مع عدد من رفاقه من أجل الكفاح العسكري ضد نظام الشاه. وفي العام 1969، وبعد أن أقنع الجاسوس «هيكل» رئيسَه وصديقه «عبد الناصر»، بتكليف من مشغليه في وكالة المخابرات المركزية، بإعادة العلاقات مع نظام الشاه في العام 1969 (كانت قطعت في العام 1960 بسبب اعتراف الشاه بإسرائيل رسمياً)، غادر «شمران» ورفاقه إلى لبنان بما يشبه عملية الطرد. وفي لبنان أسس «حركة المحرومين» و«أفواج المقاومة اللبنانية» (أمل) إلى جانب «موسى الصدر». وتزامنت عودة العلاقات المصرية - الإيرانية آنذاك مع إعادة افتتاح محطة وكالة المخابرات المركزية في القاهرة برئاسة «يوجين ترون»، بمبادرة من الجاسوس «هيكل» أيضاً و زميله الجاسوس الأميركي الآخر اللواء «أمين هويدي» مدير المخابرات المصرية. وكان «ناصر» جمّد عمل المحطة بعد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية عدوان 1967 الإسرائيلي قبل أن يسمح لها بإعادة نشاطها بعد ذلك بحوالي عام باقتراح وضغط من الجاسوسين «هيكل» و«هويدي».