من أرشيف شعبة المخابرات العسكرية السورية:
مليون دولار من «رفيق الحريري» إلى «عبد الحليم خدام» وشريكيه «الشهابي» و «كنعان» مقابل المرشح عن المقعد الأرثوذوكسي «فريد مكاري»
◄«جنبلاط» يضع أموال الرشاوى للمسؤولين السوريين في «بنك الموارد» ثم يقوم بالوشاية بهم إلى «علي دوبا»
◄ «مكاري» ( بعثي سابق) جُند من قبل وكالة المخابرات المركزية ، ومن المرجح أنه يلتقي باستمرار شخصيات إسرائيلية في الولايات المتحدة وفرنسا
نزار نيوف ـ لندن
في العام 1992 تقرر إجراء الانتخابات النيابية الللبنانية الأولى بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، بحيث تكون على مراحل أسبوعية (كل يوم أحد) تبدأ في 23 آب وتنتهي في 11 تشرين الأول ؛ علماً بأنه كان مقرراً لها تجرى في العام 1994، لكن جرى تقديمها إلى العام 1992 لاعتبارات وأسباب ليس هنا مجال الحديث عنها.
أسفرت الانتخابات عن نتائج غير مسبوقة: فاز 92 مرشحاً بصفة «مستقلين» من أصل 128 نائباً هم عدد مقاعد البرلمان. هذا ظاهر الأمر. أما باطنه فلا يُعرف إلا حين التعرف على طبيعة وهوية هؤلاء «المستقلين» الذين كانوا في واقع الحال أمراء الحرب وزعرانهم من عصابات المافيا التي كان يقودها المجرم رفيق الحريري وحماته من أركان النظام السوري: خدام، الشهابي وكنعان، فضلاً عن شركائهم السعوديين والأمريكيين، على اعتبار أن «طبخة الطائف» جرى انضاجها على نار أميركية ـ سعودية ـ سورية أتت برفيق الحريري إلى السلطة للمرة الأولى على متن قطار يحمل عشرات ملايين الدولارات من الرشاوى.(1)
كان الثالوث السوري (عبد الحليم خدام، رئيس الأركان حكمت الشهابي، رئيس فرع المخابرات السورية في لبنان غازي كنعان) هو المشرف على تركيب لوائح المرشحين الذين «يجب أن ينجحوا والذين يجب أن لا يصلوا إلى البرلمان». وستُعرف هذه الانتخابات لاحقاً باسم «دورة غازي كنعان» كما يقال عن خرّيجي الكليات العسكرية إنهم « دورة الشهيد فلان ...»!
مؤخراً ، وبينما كنت أبحث عن وثيقة معينة في المئات من وثائق أرشيف المخابرات العسكرية السورية التي سربها لي المقدم المغدور «علي فاضل» قبل تصفيته مطلع العام 2005 بعد اعتقاله في أيلول 2004 بوشاية فرنسية عن اتصالاته معي في باريس، عثرت بالمصادفة على وثيقة منسية تتعلق بتلك الاتخابات، وهي عبارة عن تقرير رفعه رئيس شعبة المخابرات العسكرية اللواء (آنذاك) علي دوبا إلى حافظ الأسد بصفته القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
بحسب التقرير، فإن المجرم رفيق الحريري دفع مليون دولار لعبد الحليم خدام من أجل ترشيح المدعو «فريد مكاري» عن أحد المقاعد الأرثوذوكسية بدلاً من الوزير السابق «الياس سابا»، رجل الاقتصاد والخبير المالي المعروف بوطنيته ونزاهته، وفق ما يجمع عليه لبنانيون كثر. وحين نعرف أن «الياس سابا» اشتهر بعدائه لصندوق النقد الدولي ، رغم أنه لا علاقة له بالشيوعية ولا بالماركسية ولا حتى بأي شكل من أشكال اليسار، و برفضه السياسات الاقتصادية الإجرامية التي تقوم على الاستدانة من الأسواق المالية الدولية ورهن البلاد والعباد مقابل ذلك، وهو ما كان عليه برنامج المأفون رفيق الحريري الذي قاد لبنان إلى الهلاك الذي يعيشه اليوم، نعرف سبب دفعه هذا المبلغ الكبير مقابل إبعاد شخص مثل «الياس سابا» من ساحة العمل السياسي. علماً بأن الحريري دفع يومها، وفق بعض المصادر، أكثر من خمسين مليون دولار ثمناً لعشرات المقاعد ممن أصبحوا لاحقاً أفراد عصابته البرلمانية .
اللافت في الوثيقة / التقرير هو أن المليون دولار جرى تقاسمها بين خدام والشهابي وكنعان، أي الثلاثة المكلفين من قبل حافظ الأسد بإدارة الملف اللبناني، وأن حصصهم وضعت في حسابات خاصة بهم في ثلاثة بنوك لبنانية. ويبدو أن تقرير «علي دوبا» اعتمد على وشاية المجرم وليد جنبلاط له. ومن المعروف أن جنبلاط كان أحد أهم كلاب الصيد السلوقية التي يعتمد عليها علي دوبا في لبنان، و مصدراً أساسياً لمعلوماته عن الحريري والبطانة السياسية المحيطة به، والتي كان يحرص أن يقدمها لعلي دوبا مباشرة ومن فوق رأس ممثله غازي كنعان، الذي كان مرتبطاً بوكالة المخابرات المركزية والمخابرات الألمانية ومكلفاً حراسة وتأمين مصالح دولتيهما في لبنان، وكان يقدم تقاريرَ منتظمة للجهتين عن الأنشطة العسكرية لحزب الله والمقاومة الوطنية اللبنانية خلال حرب التحرير.
ما يلفت الانتباه أيضا هو معارضة البطريرك الراحل «أغناطيوس الرابع هزيم» لما قام به خدام والحريري لجهة ترشيح مكاري بدلاً من سابا. وهذا ليس مستغرباً، فقد عرف البطريرك الراحل، الذي كان رأس الكنيسة الأرثوذوكسية الأنطاكية، بوطنيته واحتقاره للصوص من أذناب الأميركيين والسعوديين أمثال فريد مكاري، فضلاً عن كونه الوحيد الذي تجرأ على رفع صوته أمام حافظ الأسد وجها لوجه مطلع الثمانينيات على خلفية اعتقال العشرات من صبايا «حزب العمل الشيوعي»، وهدد بإلغاء احتفالات عيد الميلاد إن لم يقم الأسد بإطلاق سراحهن، ورفض عرض الأسد بأن يطلق سراح «المسيحيات» منهن، حيث اشترط البطريرك إطلاق «المسلمات» قبْلهن!
ما لا يقل أهمية في الوثيقة، وهذا ما عرفته للمرة الأولى بافتراض صحة معلوماتها، هو أن فريد مكاري كان صديقاً للرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش وعميلاً لوكالة المخابرات المركزية والفرنسية وآل سعود منذ زمن طويل، وأن هناك معلومات تفيد باجتماعه المتكرر مع شخصيات إسرائيلية في الولايات المتحدة وفرنسا.
ما فاجأني أيضاً، بافتراض صحة المعلومة، أن فريد مكاري كان بعثياً في الأصل. لكن ما ليس مفاجئاً هو أنه انتهى عميلاً لوكالة المخابرات المركزية، ذلك لأن «البعث جاء إلى السلطة بقطار أميركي»، وفق المقولة الشهيرة المنسوبة لـ«علي صالح السعدي»، أحد أشهر قيادات «البعث»العراقي!
ــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ليس وصف «الحريري هنا بـ «المجرم» لمجرد الهجاء السياسي. فهو حقاً كان مجرماً بالمعنى الجنائي التام للكلمة. ومن أبرز جرائمه أنه ، وحين لم يكن يعرفه أحد في لبنان سوى حفنة من الناس،كان يوزع الأموال على الميليشيات المتقاتلة على طرفي خط المواجهة في بيروت ويطلب منها تدمير «الوسط التجاري» التاريخي، تمهيداً لما سيصبح عليه مشروعه لاحقاً «سوليدير». أما من كان ينقل الأموال منه في علب أفلام الفديو، من منزله في باريس، فليس سوى مسؤول أمن القوات اللبنانية السابق «روبير حاتم» (كوبرا) كما أبلغني في مقابلة مطولة أجريتها معه ونشرتها في العام 2008. وهي موجودة على الإنترنت لمن يهمه أمرها.
No comments:
Post a Comment
Note: only a member of this blog may post a comment.