بعد حوالي 25 سنة من فشل المشافي الفرنسية والألمانية
ـــــــــــــــــــ
فيكتوريا العُزَيْزي(**)
حين جاء «نزار» إلى فرنسا للعلاج بعد خروجه من السجن في أيار 2001، كان يعاني من عدد من الأمراض المستعصية (شلل جزئي، داء لمفوما هودجكنHodgkin ناكس للمرة الثانية، كسور في الفك والمفصل الفكي الأيسر والعظم القذالي للجمجمةOccipital Bone . وهذا الأخير خلّف لطخة / خثرة دموية على قشرة الدماغ ...إلخ). بعضها بسبب التعذيب في سجن تدمر الصحراوي، وبعضها بسبب السجن في زنزانة انفرادية طوال عشر سنوات وبعضها لأسباب طبيعية أو مجهولة السبب. لكن المشكلة المستعصية التي واجهت الأطباء وأعجزتهم حتى اليوم هي تقرحات جلدية غريبة متجددة باستمرار في كامل جسمه تقريباً، والتهابات رئوية أكثر غرابة، وترسبات قديمة لمواد كيميائية في الرئتين وعلى جدران الشُّعب الهوائية.
أطباء المشافي الرئيسية في باريس (مشفى «بيتييه سالبترييه»، و«مشفى بيرسي» العسكري والمشفى الأميركي في باريس..إلخ) عجزوا عن فهم السبب. وبسبب هذه المشكلة ومشكلة عموده الفقري حولوه بعد ستة أشهر إلى «مشفى بادن - بادن» في ألمانيا ، وهو أحد أضخم المشافي الأوربية، لاسيما في مجال الأبحاث. وقد فشل الأطباء الألمان أيضاً في حل لغز إصابة الرئتين والجلد. ومنذ مجيئنا إلى بريطانيا قبل أكثر من 15 سنة فشل الأطباء هنا أيضاً في حل لغز الإصابة الجلدية والرئوية التي تفاقمت حالتها كثيراً خلال السنوات الأخيرة.
أحد الأطباء الفرنسيين اقترح يومها، وكانت المشكلة في بداياتها، وكنت أنا في بدايات تعرفي على «نزار» وقبل زواجنا في العام 2005، أن المشكلة هي أعراض جانبية لعنصر «الخردل الأزوتي Nitrogen Mustard » الذي يدخل في تركيب بروتوكول العلاج من داء «لمفوما هودجكن». لكن الأطباء الألمان لم يوافقوا، رغم أنهم لم يستبعدوا الأمر.
مؤخراً عرضه «مشفى كرويدون الجامعي» في لندن على طبيب يراه لأول مرة ( اسمه « روشان شيفا Dr. Roshan Siva» ، ويوحي الاسم بأنه من أصل هندي ...؟)، وهو أستاذ متخصص بأمراض وجراحة الرئتين والجهاز التنفسي.
كان أول سؤال وجهه لـ «نزار» بعد أن قرأ سجله الطبي وشاهد الصور وتحاليل العينات الجلدية والرئوية وفحصه سريرياً: «هل سبق لك أن عشت في منطقة صحراوية و/أو عملت في مهنة لها علاقة بمواد كيميائية سامة»!؟
كانت إجابة «نزار» إيجابية طبعاً، مع شرح ظروف وملابسات ذلك كما يمكن أن يُفهم باختصار من التفاصيل أدناه.
المهم، وبلا طول سيرة، وبعد أن عرف الطبيب بعض التفاصيل الأخرى، تبين أن «نزار» تعرض لمواد كيميائية سامة في إحدى المرات التالية أو خلالها كلها (فلا يزال التحقيق الطبي مستمر من قبل أساتذة المشفى الجامعي بعد أن أمسك الطبيب بطرف الخيط للمرة الأولى خلال مسيرة علاج قاربت ربع قرن):
الاحتمال الأول : يوم نبَش ( في العام 1988) المقابر الجماعية السرية الخاصة بالسجناء السوريين والفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين الذين أخضِعوا(اعتباراً من العام 1985) لاختبارات بأسلحة كيميائية في ثلاث مناطق في الصحراء السورية ( في «خان أبو الشامات» و«جبل عويمر/ جبل عنتر» قرب مدينة تدمر وفي منطقة الناصرية في جبال القلمون السورية) من قبل علماء مختبرات وزارة الدفاع الفرنسية و علماء مركز البحوث العلمية و المخابرات الجوية السورية. لكنه لم يكشف عن الأمر إلا بشكل عابر في مقابلة إذاعية معه في العام 2004 لأن الأمر يتعلق بأمن الجيش السوري والأمن الوطني، رغم أن ضحايا هذا «الهولوكوست الكيميائي» جميعهم من السجناء( السياسيين والأمنيين والجنائيين). ويومها لم تحصل فرنسا من سوريا على أموال مقابل تزويد سوريا بمواد خام و خبرات علمية في تصنيع الرؤوس الحربية الكيميائية، كما يحصل عادة في مثل هذه الأحوال بين الدول، بل مقابل «النتائج العلمية» لتلك الاختبارات على البشر!! ومن المعروف أن لفرنسا تاريخاً طويلاً في هذا النوع من الجرائم في أفريقيا ، لاسيما الجزائر! ( في العام 2004 أرسل «نزار» إلى «بشار الأسد» مذكرة عن الموضوع طالبه فيها بوقف هذا الهولوكوست فوراً، وإلا فإنه مضطر للحديث عن الأمر علناً، وهو إذ يلتزم الصمت فلأن الأمر يتعلق بأمن الدولة والجيش وليس أمن السلطة. وقد أرسل المذكرة عن طريق السفيرة السورية في باريس «صبا ناصر» التي سارعت إلى إبلاغ السلطات الفرنسية بالأمر، قبل أن تحيل المذكرة إلى «بشار الأسد» عن طريق وزارة الخارجية و شعبة المخابرات العسكرية. وكان هذا أحد أسباب هرب «نزار» من فرنسا وعدم دخوله إليها بعد ذلك نهائياً!! وسننشر صورة عنها، من أرشيف وزارة الخارجية و شعبة المخابرات حين نبدأ نشر وثائق هذه الملفات).
الاحتمال الثاني : يوم نبَشَ بعض المدافن السرية الخاصة بالنقايات الكيميائية المشعة (19 ألف برميل معياري standard barrel، سعة الواحد منها حوالي 160 لتر) التي أحضرها «عبد الحليم خدام» وابنه «جهاد» من أوربا ولبنان ودفناها في البادية السورية في العام 1988 مقابل 25 مليون دولار بغطاء ومعرفة «حافظ الأسد»، وبالتعاون مع «القوات اللبنانية» و «سمير جعجع». وهذه القضية كشف عنها «نزار» للمرة الأولى كما هو معروف في حلقته الخاصة من برنامج «بلاد حدود» ( الجزيرة، 15 آب 2001) بعد خروجه من السجن ببضعة أسابيع. وهو ما دفع السلطات السورية (مكتب الأمن القومي وشعبة المخابرات العسكرية) إلى تجنيد 42 محامياً سورياً لرفع دعوى «حق عام» جماعية ضده! ( راجع الوثائق المرفقة جانباً: قرار رئيس مكتب الأمن القومي، وتقرير مراسل صحيفة «الوطن» العمانية في دمشق «وحيد تاجا»).
الغريب في الأمر والمضحك،أن أعضاء «مجلس الشعب السوري»، وخلال جلسة مفتوحة بثها التلفزيون السوري على الهواء بعد انشقاق«عبد الحليم خدام» أواخر العام 2005 وشاهدها ملايين الناس في سوريا والخارج، اتهموا «خدام» بأنه «عميل إسرائيلي ، أدخل أطناناً من النفايات السامة المشعة و دفنها في سوريا...إلخ»!! وكان هؤلاء هم أنفسهم من شاركوا و/أو حرضوا على تحريك دعوى «الحق العام» ضد «نزار» بعد حلقة «الجزيرة» مباشرة، دفاعاً عن «خدام»! وهذا يعني أن «نزار» ملاحق رسمياً من قبل النظام السوري السابق بتهمة « تلفيق أخبار كاذبة ضد... عميل إسرائيلي»!!!!
الاحتمال الثالث : خلال وجوده في سجن تدمر في العام 1993 . ومن المعلوم أن السجن يقع بالقرب من أحد الأماكن العديدة التي دفنت فيها النفايات الكيميائية المذكورة التي اكتشف «نزار» قصتها في العام 1989،بالإضافة إلى كون السجن يقع في منطقة رملية/ شبه صحراوية. فقد يكون تعرّضَ لغبار ملوث بتلك النفايات خلال تلك الفترة، و/أو خلال بحثه عن أماكن دفن النفايات قبل اعتقاله.وهذا ما يفسّر تلك الترسبات الغبارية الملوثة والالتهابات المزمنة والتقرحات الغريبة في الأغشية المخاطية داخل الرئتين وشُعَبها الهوائية، حسب كلام الدكتور «شيفا». وهذا أمر وارد جداً. فالاحصاءات التي جمعها «نزار» بعد خروجه من السجن، عن طريق أصدقاء ومعارف في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي و «نقابة الأطباء البيطريين» في سوريا عن الأمراض التي تتعرض لها الثروة الحيوانية في سوريا ( لاسيما قطعان «غنم العواس» في مناطق البادية التابعة للمحافظات الفراتية ومحافظتي حمص وحماة) بينت ظهور أمراض فيها بشكل غير طبيعي خلال التسعينيات وما بعد. كما أن البيانات التي جمعها من وزارة الصحة و «رابطة الشعاعيين السوريين» وباقي الجهات في نقابة الأطباء وفروعها، بينت ظهور أمراض جلدية ورئوية وسرطانية عند الناس، من مختلف الأعمار،بمعدلات أعلى بكثير من المعدلات الوسطية الطبيعية في تلك المناطق. ولكن النظام السوري السابق منع الجهات الرسمية من نشر تلك البيانات!
ومن المعلوم أن «الخردل الآزوتي» يدخل في تركيب الأسلحة الكيميائية مثلما يدخل في تركيب البروتوكولات العلاجية الخاصة بالأنواع المختلفة من السرطانات مثل «لمفوما هودجكن»، وإن بنسب مختلفة بطبيعة الحال.
الأرجح إلى حد بعيد وشبه قطعي، كما يقول الطبيب «شيفا»، هو أن سبب إصابة «نزار»، الجلدية والرئوية، يعود إلى الاحتمالات الثلاثة كلها معاً. وهذا يحتاج لشرح أمور طبية وعلمية معقدة أنا لا أفهم منها شيئاً . أما إصابته الأخرى ( لوكيميا الدم) فلا تزال قيد البحث من حيث السبب، وما إذا كانت تتعلق بالاشعاعات الكهرطيسية التي تعرّض لها خلال خدمته الإلزامية في سلاح الدفاع الجوي أواسط الثمانينيات، كما يحصل مع الكثيرين ممن يخدمون في هذا السلاح،أم بسبب نبش المقابر والمدافن المشار إليها!؟ غير أن الدكتور «شيفا» ، ورغم أنه ليس طبيب أمراض دم، لا يرجح سبب لوكيميا الدم إلى فترة خدمته العسكرية البعيدة ( قبل أربعين عاماً). فلو كانت هي السبب لكان أصيب بلوكيميا الدم في فترة مبكرة ، ولما تأخرت الإصابة حتى اليوم.
***
أصعب من المرض هو أن يبقى مجهول السبب . ورغم أن حالته ليس لها علاج على الأرجح بسبب قدمها واستفحالها مع الزمن كما قال الطبيب، ولكن مجرد معرفة السبب يريح المريض وأهله نفسياً إلى حد ما!
نتمنى للجميع دوام الصحة.
(فيكتوريا)
ــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ حصلت من «نزار» على إذن خاص بنشر جميع الوثائق المتعلقة بهذه القضايا، وهي وثائق من شعبة المخابرات العسكرية السورية ومن إدارة المخابرات الجوية وجهات أخرى. بعضها صودر من بيت «نزار» عند اعتقاله مع زملائه ورفاقه أواخر العام 1991، وبعضها حصل عليه لاحقاً ( بعد خروجه من السجن) بمساعدة من الوزير الراحل «وليد المعلم» وضباط كانوا من أصدقائه وزملائه خلال خدمته العسكرية الإلزامية في القوى الجوية مطلع الثمانيايات، وبشكل خاص المقدم الفني الجوي المهندس «جورج فاضل متى» والعميد بطل الجمهورية «عصام أبو عجيب»، قائد لواء الدفاع الجوي في دمشق وما حولها، الذي اعتقل في العام 1989 بسبب كشفه تورط رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية آنذاك، «علي مملوك»، في تهريب الطيار المزعوم أنه «بسام العدل» إلى إسرائيل وتهريب المرأة الروسية /الأوكرانية التي جندته في الاتحاد السوفييتي لصالح إسرائيل خلال اتباعه دورة تحويل من ميغ 21 إلى ميغ 23 .( من المرجح وفق وثائق ألمانية شرقية أنه طيار آخر، بينما قتل «العدل» من قبل صديقه «مملوك» ودفن في مكان سري بسبب خلاف بينهما على عائدات مبغى للدعارة والقمار كانا يديرانه في حي المزرعة بدمشق خاص بالزبائن من الضباط، قبل أن تداهمه شعبة المخابرات العسكرية، وفق تقرير من سفارة ألمانيا الديمقراطية بدمشق؟ ويمكن مراجعة هذه القصة في كتاب فيكتور إسرائيليان : داخل الكريملن خلال حرب أكتوبر وما بعد، ص 54 ، 252، 285).
(**) ـ جميع المعلومات الواردة أعلاه مأخوذه من ملفات وأوراق وأرشيف «نزار» حرفياً، بإذن منه، فأنا أردنية ولا أعرف شيئاً عن سوريا، ولا أفهم في هذه الأمور شيئاً.
No comments:
Post a Comment
Note: only a member of this blog may post a comment.