Wednesday, 10 September 2025

 عن العملاء الثقافيين - سلالة «هيغل» و«بدوي الجبل» التي تتناسل بيننا

(في ذكرى مديح «بدوي الجبل» وأبيه للجنرالات الفرنسيين الذين أحرقوا القرى «العلوية» وهجائه الحقير للشيخ الثائر«صالح العلي» ورفاقه)

( نص خاص لمحبي القضايا الإشكالية المعقدة)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   أواسط أكتوبر 1806 ، وكان انتهى للتو من كتابة مؤلفه الشهير «فينومينولوجيا العقل»، وقف الفيلسوف الألماني الكبير«جورج فيلهلم هيغل»،أستاذ «كارل ماركس» الافتراضي في شبابه(من خلال«برونو باور ـ زعيم حركة «الهيغليين الشباب»)،على تخوم بلدته «ييناJena» التي كان أستاذاً في جامعتها، ليستقبل الإمبراطور الفرنسي «نابليون بونابرت» وجيوشه بالطبول والدفوف. ولم يكن مضى يومها سوى أقل من 24 ساعة على معركة «يينا - أوَرشتت Jena–Auerstedt» التي دارت رحاها قرب المدينة المذكورة بين جيوش الغزاة الفرنسيين والجيش البروسي /الألماني الذي لحقت به هزيمة منكرة ستغير وجه ألمانيا إلى الأبد. 

  وفي 13 من الشهر نفسه كتب «هيغل» إلى صديقه عالم اللاهوت البروتستانتي «فريدريش نيتهامرFriedrich  Niethammer» ( 1770–1843) رسالة مفعمة بالتقريظ والمديح الفلسفي للجنرال الفرنسي الغازي «بونابرت»، لعل أبرز ما جاء فيها تلك العبارة الشهيرة التي تتوارثها الأجيال :«لقد رأيت الإمبراطور ـ روح العالم ـ وهو يتجول في المدينة ؛ إنه لأمر رائع حقاً أن نرى مثل هذا الفرد الذي يركز نظره على نقطة واحدة من فوق حصانه، ويمد بصره فوق العالم ويسيطر عليه»(1)! وبعد ساعات وحسب من كتابته رسالتَه هذه، كان جنود «بونابرت» ينهبون المدينة، بما فيها الغرفة التي كان يستأجرها «هيغل»، ويضرمون النار فيها وفي كتبه وأوراقه، بما في ذلك مئات الصفحات التي شكلت المسودات والتخطيطات الأولى لكتابه «فينومينولوجيا العقل»، فلم يجد مكاناً ينام فيه سوى الفندق الذي كانت تديره صديقته «كريستينا». ومع ذلك ظل يحتفل طوال حياته بذكرى انتصار الفرنسيين على بلاده!

  بعد أكثر من مئة عام على ذلك،وفي مثل هذه الأيام تقريباً من العام 1921 ، نشرت مجلة «العرفان» اللبنانية في عددها الصادر في آب/ أغسطس، قصيدة بعنوان «عواقب الجهل» للشاعر «محمد سليمان الأحمد»، الذي سيصبح شبّيح فرنسا الأول في الساحل السوري، قبل أن يصبح لاحقاً شبيح«الكتلة الوطنية»(عميلة الحركة الصهيونية و«الوكالة اليهودية» مالياً وسياسياً ومخابراتياً) وشبيح «آل سعود» حتى مماته في العام 1981 (2).

  كانت القصيدة في مديح الجنرال الفرنسي «نيجر» الذي كان يحرق القرى العلوية في الساحل السوري بقنابل الطائرات من الجو، وفي مديح زميله الجنرال «موغران» الذي كان يكمل حرقها بقنابل المدافع والدبابات من البر و قنابل السفن الحربية من البحر. وكانت حارة عائلتنا («حارة بيت نيوف» في قرية بسنديانة/ ريف جبلة) إحدى القرى المستهدفة بقنابل الطائرات كعقاب جماعي على الطريقة الإسرائيلية اليوم،لأن جد والدي« جبّور مفلح حسن نيوف»، كان «عكَيداً» (قائد قطاع) في ميليشيات المقاومة التي أنشأها الشيخ «صالح العلي»،وجدي المباشر والد أمي «راشد نيوف» وابن عمه «علي مفلح حسن نيوف»، كمتطوعين معه! لكن الألعن من مديح «محمد سليمان الأحمد» للجنرالات الغزاة أنه راح يتشفى ويشمت منتشياً حتى الثمالة بالشيخ «صالح العلي» وساخراً منه ومن رفاقه الذين كانوا أول من تصدى للغزاة الفرنسيين منذ الأيام الأولى لنزولهم على الشواطىء السورية وزحفهم البري من تركيا خريف العام 1918. فقد  وصفَ الشيخَ الثائرَ وأصحابَه  بـ «الآثمين الجهلة»، تماماً على غرار ما يفعله اليوم الإعلام الخليجي – الصهيوني وزبانيتُه مع مقاومي «غزة» وجنوب لبنان واليمن، الذين رفضوا الخضوع والإذعان ورفع الراية البيضاء! ومما جاء في قصيدة هذا الشّبيح الفرنسي – السعودي الذي سيُعرف لاحقاً بـ«بدوي الجبل»:

مشى فيه «مُغرانُ» الشجاعُ بجحفلٍ .... تظلّله فيه السيوفُ البواترُ

فأوْرَدَ مَن قاموا بِنُصْرةِ «صالحٍ».... مواردَ حَتْفٍ ما لهنّ مصادرُ

وليثٌ من «الإفرنس» صعْبٌ مِراسُه ... صَؤولٌ وأفواهُ المنايا فواغرُ

تقدّمَ تحت النار لم يُثنِ عزمَه ... رصاصٌ على فرسانه متطايرُ

أَ«نيجر» رِفقاً بعد ذاك ورحمةً .... فأنت على ما شئتَ بالقومِ قادرُ

نعم قُتلوا والجهلُ سلَّ سيوفَهم ... وهمْ أثِموا والجهلُ في الإثم آمرُ!

في الواقع لم تكن هذه قصيدته الأولى في مديح الغزاة الفرنسيين والإشادة بـ«بطولاتهم» في قتل أبناء بلده وطائفته وحرق قراهم بالقنابل. فقبل ذلك بأقل من عام (24 أكتوبر 1920) نشر في جريدة «ألف باء» الدمشقية (3)، قصيدةً أكثر فجوراً في مديح الجنرال «غورو» و«بطولته» في قتل الشهيد «يوسف العظمة» والمئات من رفاقه في «معركة ميسلون» الخالدة، وفي مديح الوجهاء الأوغاد من أبناء المجتمع التجاري الدمشقي الذين جرّوا بمناكبهم ورقابهم، كما تفعل البغال والحمير عند جر الطنابر، عربةَ رئيس أركانه الجنرال «ماريانو غوابيه Mariano Goybet»» الذي منحه «غورو»، من مقر قيادته في جبل لبنان،«شرف» دخول دمشق  بعد المذبحة التي كان ارتكبها في «ميسلون» قبل يوم واحد فقط . ومما قاله في هذه القصيدة تحت عنوان «تحية للجنرال»:

أسدٌ أطلّ على الشآم فهللت ...وكذا تكون تحيةُ الآسادِ

بَسَمتْ لوجهك مرتين ورحّبتْ ... أنجادُها بليوثك الأنجادِ (4)

    من المرجح أن هذه القصيدة هي أول ما كتبه في حياته، فلم يكن تجاوز السابعة عشرة من عمره آنذاك (مواليد العام 1903). ولهذا أرجح بقوة أنه كتبها بمساعدة وإشراف والده الشيخ «سليمان الأحمد»، الذي كان شاعراً صوفياً عرفانياً مكرَّساً وأحد الزعماء الروحيين للطائفة آنذاك، وعضو «المجمع العلمي اللغوي» بدمشق لاحقاً، وأحد الممالئين للفرنسيين (5). ورغم أن «البدوي» لم يكن سمع آنذاك بـ«هيغل»، ولا بمعركة «يينا – أوَرشتت»، فقد كانت القصيدة مجرد ترجيع صدى شعري لما قاله «هيغل» فلسفياً في مديح الغزاة، وإن يكن ذهب إلى مدى أبعد وأعمق في الدناءة والنذالة اللتين أظهرهما «هيغل» في مديحه الفلسفي، رغم أن كلاً منهما انطلق من دوافع مختلفة عن الأخر في وقوفه مع الغزاة، وإن كانا يلتقيان في مبتغى (أو حتى «مبغى»!) سياسي واحد.  فلماذا أقدم كل منهما على فعلته المخزية تلك!؟


   فيما يتعلق بـ «البدوي»، ليست القضية عصية على الفهم. فهو سليل طائفة عاشت (إلى جانب طوائف أخرى)، وطوال أكثر من ألف عام، تحت نير الاضطهاد الطبقي-المذهبي من قبل الدولة الإسلامية السنية الحاكمة التي مثلت التحالف التجاري – العسكري الرجعي . وكان «الإسلام التناخي-التلمودي» التكفيري أيديولوجيتَها الرسمية منذ بداية الدولة الأموية، لكن وبشكل خاص بعد هزيمة «الثورة الثقافية» الإسلامية الأولى والأخيرة (ثورة المعتزلة) تحت ضربات التحالف المذكور في مراحله المختلفة، وصولاً إلى الحقب السلجوقية والمملوكية والتركية لهذا التحالف، الأكثر وحشية ودموية، طبقياً ومذهبياً. وكانت هذه «الثورة» تمثل تطلعات ممثلي النقابات الحرفية («الأصناف») وأسلوب الإنتاج السلعي الحِرَفي البسيط(صانع الثورات الحقيقية في التاريخ)، وحلفائهم المضطهَدين الآخرين من الفلاحين والعبيد والموالي. ولهذا كان من الطبيعي أن يجد «البدوي» في الغزو الفرنسي نوعاً من «التحرير الخلاصي» كونه يمثل «الديمقراطية والمساواة وعصر الأنوار»، وفق الأسطورة التي انتشرت في الشرق منذ الغزو البونابرتي لمصر وفلسطين أواخر القرن الثامن عشر؛ تماماً كما يرى «الليبراليون» العرب وأيتام «اللينينية»(تلاميذ النصاب « سلافوي جيجك» والمشعوذ «برنار هنري ليفي» ورجل وكالة المخابرات المركزية الراحل «رياض الترك» في سوريا، وبقية «الشيوعيين التائبين») في الفتوحات الأميركية اليوم!  

   صحيح أن الطائفة العلوية في سوريا ( ولأسباب بيئية – جغرافية - تاريخية) لم تعرف نظام الإقطاع بأي شكل من أشكاله (الخراجي، التملك، الانتفاع ...إلخ) منذ أن فرّ أتباعها  إلى الساحل السوري بعد سقوط الدولة الحمدانية في حلب أواخر القرن العاشر ومطلع القرن الحادي عشر، باستثناء عائلات محدودة في السهل الساحلي والداخلي (ريفي حماة وحمص)؛ لكنها عرفت ما يمكن تسميته مجازاً بـ«الإقطاع الديني». وقد تمثل هذا الأخير بعدد محدود من العائلات التي تمكنت من احتكار المعارف الدينية دون السواد الأعظم من الناس، نتيجة للفقر التاريخي المتراكم والتخلف المجتمعي الناجم عنه والاضطهاد الديني والسياسي الذي لحق بهم كما بغيرهم من الطوائف. ونتيجة لتلك الظروف كان أمراً طبيعياً أن يتحول عدد من رموز تلك العائلات، بقوة الأمر الواقع، رغم عدم وجود مؤسسة مشيخية في الطائفة ، إلى «أعيان» و «وجهاء» محليين ذوي سطوة اجتماعية - دينية وجدت في لحظات تاريخية معينة أن مصالحها متقاطعة مع مصالح الطبقات البرجوازية المدينية (التي ولدت في ركاب رأس المال الأجنبي اعتباراً من القرن الثامن عشر) و/أو الاحتلالات الأجنبية، كما حصل في قضية تآمرهم الإجرامي على الثائر الفلاحي الوطني «سلمان المرشد» وإعدامه في العام 1946 (6). ولهذا لم يكن أمراً نافلاً أو شاذاً عن منطق الأشياء أن نرى في الطائفة أمثال «بدوي الجبل» وأبيه (من «الإقطاع الديني»)، وبعض العائلات المالكة للأطيان (من «الإقطاع الزراعي»)، وقد وضعوا مصالحهم في ركاب الغزاة في مواجهة الفلاحين العلويين الفقراء الذين لم يترددوا في الوقوف وراء الشيخ «صالح العلي»، رغم تعرض قراهم للتدمير والحرق من الجو والبر والبحر! وهذا ما رأيناه في مناطق سوريا الأخرى، بما فيها دمشق - القحبة. ففي الوقت الذي فتحت دمشق (كأي حاضرة تجارية) قوس ساقيها وفخذيها للاغتصاب الفرنسي الذي بقيتْ تتلذذ به وتتأوه له من فرط اللذة طوال 26 عاماً، كما فعلت عبر التاريخ كله مع القوادين جميعاً، وصولاً إلى يومنا هذا، وبخلاف الأساطير والخرافات التي ترويها أعمال درامية رخيصة، كان فلاحو أريافها هم من يتصدى للغزاة، بينما ينصرف أبناؤها التجار إلى جر عربات وطنابر الغزاة بمناكبهم ورقابهم كما تفعل البغال والحمير.

وأما ما يتصل بـ«هيغل»، فالأمر مختلف، وإن صبَّ في المجرى نفسه. فمن وجهة نظره كان «نابليون» يحقق على مستوى الفعل ما يحققه هو شخصياً على مستوى الفكر، أي «تحقيق المطلق»، كم شرحه في «فينومينولوجيا العقل»، ذلك «أن نهاية التاريخ السياسي تتزامن مع نهاية الفلسفة»، كما قال. وبتعبيره الآخر الأقل شهرة، كانت ألمانيا - بحكم طبيعة وخصوصية تكوين نظامها الإقطاعي المتكلس، على خلاف الأنظمة الإقطاعية «الحيوية» الأخرى في انكلترا و فرنسا - بمثابة «جوزة لا يمكن الوصول إلى لبها دون كسرها بمطرقة من الخارج»، فكان الغزو البونابرتي هو «المطرقة الهيغلية». وقد شكلت هذه الفكرة جوهر «الفكر الأبيض» ومقولته عن«عبء الرجل الأبيض في تحضير العالم من خلال استعماره». ومن المفارقات المدهشة أن «الشيوعيين –اللينينيين»، ومعهم أبرز المفكريين الهيغليين غير الماركسيين(أمثال «جورج لوكاش» و «أنطونيو غرامشي») كانوا يسيرون على هذا النهج اللينيني الأحمق في منح دور«تقدمي اقتصادياً وسياسياً» للرأسمالية والاستعمار ثم الإمبريالية في «تحضير civilize» أطراف النظام العالمي غير الأوربي و «دمقرطتها» من خلال اقتحامه ونقله من الإقطاع أو النظام الخراجي إلى الرأسمالية. وبدافع الاحتيال، أو على الأقل بدافع الجهل، جرى الاستناد في ذلك إلى «كارل ماركس» نفسه (لاسيما نصوصه حول الاستعمار)، كما فعل الأحمق «إدوارد سعيد» حين وصفه (في «الاستشراق») بـ«العنصري» لهذا السبب بالذات. وهو ما يشبه تلفيقات النصابين المسلمين حين يريدون ارتكاب أو تبرير أو شرعنة جريمة ما فيلجؤون إلى فبركة أحاديث «بخارية» و ردّها إلى «النبي محمد»!

مشكلة هؤلاء، و«إدوارد سعيد» على رأسهم، أنهم لم يفهموا حرفاً واحداً مما قاله «كارل ماركس» حول هذه القضية، بافتراض أنهم قرؤوه أصلاً. فهو وضع قضية العلاقة بين الغرب وأطراف العالم في سياق عملية «تراكم ابتدائي» وليس «تراكم موسع»، وقال في الفصل 31 من «رأس المال»(وعنوانه نشأة الرأسمالي الصناعي Genesis des industriellen Kapitalisten) ما حرفيته :«إن اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا، واستئصال السكان الأصليين لتلك القارة واستعبادهم ودفنهم في المناجم، وبداية غزو ونهب الهند، وتحويل إفريقيا إلى محمية للصيد التجاري للسود، كلها أمور تميز فجر عصر الإنتاج الرأسمالي. إن هذه العمليات النموذجية تشكل اللحظات الرئيسة للتراكم الابتدائي»(7). بل وذهب ، بفعل حدسه السياسي العبقري، وقبل ولادة الإمبريالية نفسها، إلى الحديث عن «ملايين العمال الهنود المحكوم عليهم بالفناء لكي يوفروا لمليون ونصف المليون من العمال في انكلترا، الذين يعملون في الصناعة نفسها، ثلاث سنوات من الازدهار من اصل عشرة» (8). وهذا هو بالضبط جوهر عمل «قانون التبادل اللامتكافىء» في التجارة الدولية بين الغرب الرأسمالي وبقية العالم ، و«قانون القيمة» (قانون النهب) الذي يحكم هذه التجارة في عصر الإمبريالية التي لم تولد إلا بعد سنوات من وفاة هذا العبقري الفذ الذي لا نظير له في التاريخ، وجوهر القانون الذي يستحيل معه أن يقوم الغرب الرأسمالي بأي «دور تقدمي / تحرري» منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، حين تحولت الكولونيالية إلى إمبريالية.  أما في مراسلاته مع الثورية والمنظّرة الروسية العظيمة «فيرا زاسوليتش» في العام 1881، فكان أكثر مباشرة حين قال ما حرفيته «إن الوحشية التي تقوم بها الرأسمالية والبؤس الذي تخلّفه في المستعمرات يجردها من أي دور تقدمي تاريخياً»(9). وقد أثارت العبارة جدلاً هائلاً في صفوف الحركة الشيوعية مطلع القرن الماضي، حتى أواسطه، لأنها عبارة مفتاحية لبناء مفهوم نظري وسياسي كامل بشأن إمكانية وجود «برجوازية وطنية في العالم الثالث / المستعمرات»، وبالتالي «تصنيع رأسمالي وطني مستقل» في عصر الإمبريالية، أو دور«تقدمي للرأسمالية في عصر الإمبريالية»، حسب زعم النصاب والمشعوذ «لينين»، الذي لم يتجرأ أحد على مناقشة هلوساته والتصدي له في وجهه و وصفه بالمشعوذ (خلال «مؤتمر باكو لشعوب الشرق» في العام 1919) سوى زعيم الحزب الشيوعي الهندي «مانابيندرا ناث روي Manabendra Nath Roy»! والواقع إن الماركسي الوحيد الذي فهم ما أراد «ماركس» قوله حين وضع العلاقة بين الغرب وبقية العالم في سياق عملية «تراكم ابتدائي»، وليس عملية «تراكم موسع»، هي العبقرية «روزا لوكسمبورغ»، التي بنت مؤلفها المذهل «تراكم رأس المال»(1913) على هذه الفكرة تحديداً، وكان هذا أحد أسباب احتقارها لشعوذات «لينين» التي رددها لأسباب سياسية انتهازية محضة ليس هنا مكان الخوض في تعقيداتها وتشعباتها. ولكن من أين لشخص مثل «إدوارد سعيد» وأضرابه ، وهو المتخصص في النقد الأدبي ولا يفهم حرفاً واحداً من معنى «التراكم الابتدائي» ومعنى «التراكم الموسع» ولا الفرق بينهما أو بين ما ينجم عن كل منهما، أن يفهم ما قاله «ماركس» فيتجنب وصفه بتلك العبارة الحقيرة والحمقاء!؟

رغم مرور أكثر من قرن على تلك النقاشات، وثبوت حقيقة أن الرأسمالية فقدت دورها التقدمي تاريخياً إلى الأبد، منذ أن تحولت إلى إمبريالية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لا تزال قطعان «الهيغليين»، العملاء والجواسيس الثقافيين، من أيتام «هيغل» و«بدوي الجبل»، يتناسلون بيننا بأشكال لا حصر لها. وربما كان أكثر هذه الأشكال فجوراً وعهراً نظرية «الصفر الاستعماري»، التي اخترعها عميل وكالة المخابرات المركزية العتيق «رياض الترك» حين حرّض واشنطن على غزو العراق في العام 2003، وبرر لها جرائمها الإبادية ضد الشعب العراقي بدعوى أنها ستنقل العراق من تحت الصفر (كقيمية رياضية سلبية) إلى ما فوق الصفر (كقيمة رياضية إيجابية)، وحين تسلل إلى واشنطن سراً بعد عامين على ذلك(خريف العام 2005)، بمعرفة صديقيه العتيقين، «برهان غليون» و«ميشيل كيلو»(الذي وشى به لاحقاً لصديقه العميد «رستم غزالي»)، واجتمع مع ضباط البنتاغون و مجرمي «المحافظين الجدد»، لاسيما وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد»، ودعاهم لإكمال غزوهم للعراق بغزو سوريا «لكي يكتمل عقد الديمقراطية في المشرق العربي»! 

لندن، مشفى كرويدون الجامعي، خريف 2023 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ مجموعة رسائل «هيغل»، الترجمة الإنكليزية:

Hegel: Letters, Indiana University Press, 1984, pp. 114-11:

https://ia804700.us.archive.org/18/items/hegel-the-letters/Hegel%20-%20The%20Letters.pdf

(2) ـ هناك نزعة هستيرية مجنونة عند ممثلي اليمين الرجعي السوري ، لاسيما فرعه الإسلامي الظلامي، لإضفاء هالة نورانية على الأنظمة التي حكمت سوريا ما قبل «البعث»، لاسيما عهد رموز «الكتلة الوطنية»، فقط لإظهار «البعث» (ومعه أحياناً عهد الوحدة مع النظام الناصري) كما لو أنه سبب وبداية مصائب سوريا كلها. وينبع هذا ليس فقط من فكرهم الرجعي والطائفي القذر، بل أيضاً من عماهم وجهلهم المطبق بتاريخ سوريا المعاصر (كتسعة أعشار أبنائها) وابتذالهم الثقافي والمعرفي لجهة ما يتعلق بالظروف التاريخية لتكوّن البرجوازية السورية العميلة منذ القرن الثامن عشر عبر التجارة والقطاع الزراعي اللاتيفوندي latifundium. فقبل أكثر من عشر سنوات، على سبيل المثال، ورداً على أحد الكتاب (لم أعد أذكر اسمه)، جن جنون الصحفي الظلامي السوري الطائفي «حسام الدين محمد» (الموظف في جريدة المخابرات القطرية والأخوان المسلمين ـ «القدس العربي») لمجرد أن الكاتب اتهم رموز «الكتلة» بالفساد! فماذا لو اطلع هذا الأحمق الجاهل على أرشيف المنظمة الصهيونية العالمية / مكتب باريس (أصبح سفارة إسرائيل لاحقاً)،وأرشيف «الوكالة اليهودية» و«الصندوق القومي اليهودي»،ورأى مراسلات زعماء«الكتلة»(بمن فيهم العميلان والجاسوسان الأكبران «هاشم الأتاسي» و «شكري القوتلي») ولقاءاتهم السرية مع قادة هذه الجهات الصهيونية الثلاث خلال ثلاثينيات القرن الماضي وما بعد، وقبضهم الأموال منها، والتجسس لصالحها ضد «ثورة عز الدين القسام» الفلسطينية، وبيعهم الأراضي السورية والفلسطينية لها!؟ ربما كان سينتحر هو وأمثاله بجرعة من سم الفئران!

(3) ـ أصبحت جريدة «الف باء» لاحقاً لسان حال جواسيس وعملاء الحركة الصهيونية و«الوكالة اليهودية» من «الكتلة الوطنية» («هاشم الأتاسي»، «شكري القوتلي»، «فارس الخوري»،«جميل مردم» ، «فخري الباردوي»...إلى آخر قائمة هؤلاء الأوغاد من «أبطال الاستقلال»).

(4) ـ عندما نشر ديوانه الشامل/ أعماله الكاملة في العام 1978،عن «دار العودة» الفلسطينية في بيروت، بالتعاون مع صديقه السياسي الفلسطيني/ الجزائري العتيق «أكرم زعيتر» الذي كتب مقدمة للديوان، عمد «بدوي الجبل» إلى حذف القصيدتين  من قسم «البواكير» (ص 433 - 553) الذي يتضمن قصائده التي كتبها في شبابه والتي كانت صدرت أصلاً في ديوان مستقل بالعنوان نفسه في العام 1925. لكنه، وكمنافق محترف مثل أغلبية الشعراء والمثقفين، عمد إلى نشر قصيدة «مرابع الأحباب» في مديح «يوسف العظمة» بدلاً من القصيدة التي ذمّه ومدَح قاتله فيها («تحية للجنرال»)! واللافت أنه وضع للقصيدة البديلة تاريخاً هو 1920، أي التاريخ نفسه الذي نشر فيه القصيدة التي مدح فيها قاتلي «يوسف العظمة»! والتدقيق في أسلوب القصيدة ومبناها، حتى من قبل غير متخصص، وهي مكتوبة بأسلوب الرباعيات ، يكشف لنا في الحال أنه كاذب على الأرجح، وأنه لم يكتبها في العام 1920 كما ادعى، بل في سنوات لاحقة بعد نضجه الشعري وبعد أن اكتشف فظاعة ما اقترفه في مديح الغزاة الفرنسيين والشماتة بالشهداء السوريين الذين تصدوا لهم والسخرية منهم. هذا اللهم إلا إذا كان يعاني الشيزوفرينيا، فيكتب قصيدتين في العام نفسه، واحدة يشمت فيها بـ «يوسف العظمة» ورفاقه الشهداء ويحيي قتلته الفرنسيين، والثانية يمدحه فيها! وهذا ليس مستبعداً، فقد فعلها «المتنبي» قبله حين مدح «كافور الإخشيدي» وهجاه في الفترة ذاتها تقريباً بواحدة من أوسخ القصائد العنصرية في التاريخ، رغم بلاغتها الأدبية المذهلة! ولعل أبلغ تعبير عن انتهازية «بدوي الجبل» و وساخته سياسياً، ليس فقط أنه كتب (ص 552) قصيدة مدحية تقريظية لصديقه الجاسوس «ميخائيل إليان»، عميل وكالة المخابرات المركزية الشهير(بعد فراره من سوريا والحكم عليه بالإعدام بسبب اشتراكه في محاولة الغزو المسلح لسوريا في العام 1957 عن طريق تركيا والأردن ولبنان، بالتنسيق مع «الأخوان المسلمين» و«الحزب القومي السوري» والأمير الجاسوس «حسن الأطرش»)، بل أيضاً في أنه أهدى ديوانه الشامل/ الأعمال الكاملة إلى «الملك فيصل آل سعود» لأسباب سياسية و/أو كيس من الدنانير. وهو ما فعله في الفترة نفسها تقريباً صديقه «أدونيس» (في «ديوان النهضة» / 1983، وقبله في «الثابت والمتحول» /1973)، حين وصف إمام الإرهاب السعودي، نبّاش القبور وقطّاع الرؤوس «محمد بن عبد الوهاب»، بأنه «إصلاحي مستنير»، وأن «الوهابية حركة إصلاحية تنويرية»! أي نعم، كذا حرفيا، هذا ما قاله هذا المتصهين، بطل التطبيع مع إسرائيل في «مؤتمر غرناطة» التطبيعي (في العام 1994)، الذي وقف وراء تنظيمه كل من «عزمي بشارة» و«شمعون بيريز»، والذي ذهب إليه «أدونيس» بإذن خاص من «حافظ الأسد» (وفق وثيقتين رسميتين لدي صورتان عنهما، واحدة بتوقيع «الأسد» شخصياً). ويومها كان «حافظ الأسد» فتح الباب على مصراعيه في التواصل مع «رابين» عبر «محارم الكلينكس» التي كان ينقلها «عزمي بشارة» بينهما ويتعمد أن يتمخط فيها لكي لا يشك فيها جهاز الموساد الذي كان رئيسه آنذاك، «شبتاي شافيت»، يعمل لصالح  غريمه «آرييل شارون» الذي يرفض الحل السلمي مع سوريا، كما قال «بشارة» لاحقاً. وغني عن التذكير أن هذا الأخير شارك لاحقاً - بتكليف من «بشار الأسد»، وبالتعاون مع المخابرات الأردنية – في جمع «ماهر الأسد» و رفيقيه العميد « بشير قره فلاح» والعميد الجاسوس «محمد سليمان»، مع مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية «إيتان بن تسور  איתן בנצור» في عمان في آذار/ /مارس 2003. وأدى كشف هذا اللقاء في حينه من قبل صحيفة «معاريف» إلى تبادل اللكمات اللفظية تحت الزنار بين «آرييل شارون» و زعيم المعارضة «شمعون بيريز» ورئيس الموساد في حينه «مئير داغان».  

(5) ـ سيكافىء الفرنسيون الشيخ «سليمان الأحمد» لاحقاً ، بسبب موقفه من ثورة الفلاحيين العلويين والشيخ الثائر«صالح العلي»، بتعيينه كبيراً للقضاة في اللاذقية، ثم بإعطاء ابنه «علي» منحة دراسية لدراسة الطب في فرنسا في العام 1935، ثم منحة أخرى لابنته «جمانة» للتخصص في طب الأطفال،ولكن بعد خروجهم من سوريا ببضع سنوات (مطلع الخمسينيات).

(6) ـ واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ سوريا المعاصر هي التهم الملفقة الرخيصة التي أعدِم «سلمان المرشد» بسببها في العام 1946. وكانت جريمة إعدامه أول تعبير عملي من نوعه عن المصالح المشتركة للتحالف السياسي الإجرامي بين البرجوازية التجارية العميلة لفرنسا والحركة الصهيونية،التي مثلها سياسياً آنذاك «الكتلة الوطنية» بقيادة الرئيس الأخونجي الجاسوس «شكري القوتلي» (جاسوس الحركة الصهيونية و«الوكالة اليهودية» العتيق وصديق «خاييم وايزمان» منذ العام 1936)، وبين فئة الأعيان والوجهاء العلويين من المشايخ و بعض شركائهم «الإقطاعيين» الزراعيين من الطائفة. وهؤلاء جميعاً رؤوا في انتفاضة/ كومونة«المرشد» الفلاحية وبرنامجها الاقتصادي - الاجتماعي  خطراً على مصالحهم الاقتصادية والدينية. وليس محض مصادفة أن «بدوي الجبل»، من موقعه في «الكتلة الوطنية» وكخزمتشي لها ولـ «شكري القوتلي»، كان ممن ناصروا «القوتلي» في تلفيق التهم الرخيصة والحقيرة للمغدور«سلمان المرشد» والحض على التخلص منه،كما تفيدنا وثائق إرشيف «المكتب الثاني» التي نقلها مؤسس ورئيس «مكتب الأمن القومي»، العقيد «عبد الكريم الجندي»، إلى المخابرات الخارجية الألمانية الشرقية قبل انتحاره!

(7) ـ «رأس المال،  الفصل 31 »(الطبعة الألمانية):

http://www.zeno.org/Philosophie/M/Marx,+Karl/Das+Kapital/I.+Band%3A+Der+Produktionsproze%C3%9F+des+Kapitals/VII.+Der+Akkumulationsproze%C3%9F+des+Kapitals/24.+Die+sogenannte+urspr%C3%BCngliche+Akkumulation/6.+Genesis+des+industriellen+Kapitalisten

(8) ـ ماركس، نصوص عن «الاستعمار  والتحديث»، ص 35  من مجموعة رسائله ومقالاته ذات الصلة، التي جمعها ونشرها «شلومو أفينيري» في العام 1969، وهي المجموعة الأكثر كمالاً واكتمالاً من نصوصه حول هذه القضية:  

K. Marx: On colonialism and modernization  (Shlomo Avineri, Ed.), anchor books, New York, 1969.

(9) ـ مراسلات ماركس مع «فيرا زاسوليتش»:

Teodor Shanin ( Ed.): 1881 Letters of Vera Zasulich and Karl Marx.


No comments:

Post a Comment

Note: only a member of this blog may post a comment.