Tuesday, 30 September 2025


في الذكرى الأولى لاستشهاد نصر الله :

برقية صادرة عن مفرزة المخابرات العسكرية في «جديدة يابوس» على الحدود اللبنانية إلى «الفرع227» تشير ضمناً إلى أن «نصر الله» كان مجتمعاً مع «بشار الأسد» قبل اغتياله بـ 18 ساعة، وجرى استهداف موكبه عند الحدود السورية – اللبنانية بعد منتصف الليل!؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

 تلخيص : فيكتوريا العُزَيزي

سمح لي «نزار» بتلخيص ونشر المعلومات الواردة أعلاه من القسم الثالث من كتابه «عشرة أيام هزّت بلاد الشام ... نظام الأسد قياماً وركاماً 1964-2024 »، الموضوع منذ 25 آذار الماضي كأمانة في «مكتب حماية الملكية الفكرية» الحكومي البريطاني، بانتظار أن نعثر على ناشر. ويحمل القسم الثالث هذا العنوان « الليالي العشر الأخيرة من قَرْن سايكس - بيكو»، والتي تغطي الأيام العشرة الأخيرة من حياة «نصر  الله» ( 17- 27 أيلول 2024) و الأيام العشرة الأخيرة من حياة النظام السوري السابق (27 تشرين الثاني – 7 كانون الأول 2024). كما سمح لي بنشر بعض الوثائق المتعلقة بالقضية، وهي المنشورة جانباً. ولأن القسم الثالث يعادل وحده حوالي  170 صفحة  وتتداخل فيه قضايا قديمة وحديثة، حاولت أن استخرج جميع المقاطع المتعلقة بالسياق السياسي والملابسات الأمنية لعملية غتيال« نصر الله» في ذكراها الأولى، دون أن أسيء إلى مضمون النص بالتلخيص.

كان من المفترض أن أقوم بذلك قبل أربعة أيام، ولكن صعوبة استخراج عشر صفحات من أصل حوالي مئتي صفحة هي حجم القسم الثالث، دون الإساءة للنص الأصلي، هو ما أخرني، فضلاً عن البحث عن روابط مرجعية أوردها في سياق الكتاب. 

(فيكتوريا) 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعرف معظم من عاش في دمشق خلال الثمانينيات، وكان يهتم بأمور من هذا القبيل،أنه كان يوجد في منطقة«العفيف/الجسر الأبيض» مكتب صغير على بابه لوحة صغيرة كتب عليها «مكتب الجبهة الثورية لتحرير تيمور الشرقيةFretlin»، وفوق الباب رُفع علم الجبهة المذكورة ؛ وكنتُ أتساءل كلما مررت في المنطقة: ما حاجة حركة تحرر  في جزيرة صغيرة تقع قرب أستراليا في أقاصي الأرض، ولا يكاد أحد في سوريا يعرفها أو سمع بها إلا بمحض مصادفة، إلى مكتب تمثيل في دمشق!؟ لكني أدركت لاحقاً أن السؤال الأدق يجب أن يكون معكوساً: ما حاجة النظام السوري أصلاً لأن يفتتح مكتباً لحركة مسلحة صغيرة تمثل شعباً لا يزيد عدده عن عدد سكان أحد أحياء دمشق ولا تربطنا به أي علاقة من أي نوع، لاسيما وأنها تشكل عبئاً سياسياً وأمنياً، كونها محارَبة من الغرب الرسمي الأنكلوسكسوني، ولا يكاد أحد يدافع عن قضيتها سوى «نوآم تشومسكي» الذي وضعها على رأس قائمة اهتماماته وأنشطته الإعلامية آنذاك!؟

(...)

   سأعرف لاحقاً أن توجيهات «الأسد» الأب للجهات المعنية في نظامه قضت منذ البدايات الأولى لتأسيسه بالموافقة على افتتاح مكاتب لأي «حركة تحرر» في أي مكان في العالم،على قاعدة المثل الشعبي القائل «خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود»، وهو الذي كان يعبّر علناً عن كراهيته العميقة للشيوعية والماركسية،ويشكو لأصدقائه في لندن خلال زياراته السرية الثلاث،كما لاحظنا في محاضر تلك اللقاءات،من أن رفاقه «الماويين»، كما كان يصفهم بنبرة اتهامية،مشيراً بذلك إلى ترويكا «الأتاسي» و«جديد»و«زعيّن»، «يعملون على تحويل سوريا إلى كوبا الشرق واستيراد ثقافة ماركسية إلحادية تتعارض مع ثقافتنا وقيمنا العربية والإسلامية»!

(...)

  لكن، وبخلاف رفاقه الذين كانوا يتعاملون مع «حركات التحرر» من منطلقات أيديولوجية ومبدئية ، كان هو يتعامل معها كـ«أوراق تفاوضية» وأشبه بتعامل هواة جمع الطوابع والعملات الأنتيكية مع مقتنياتهم التي خرجت من التداول. فرغم أن هذه الأشياء لا قيمة تداولية لها، وإنما قيمة «رمزية»، إلا أنه قد تأتي لحظة يمكن أن يجري استبدالُها أو بيعُها مقابل ثروة مالية طائلة! وقد دلت السنوات اللاحقة أنه كان مصيباً وحيسوباً إذا ما نظرنا إلى الأمر من منظور منطق وأخلاق وقيم السوق التي يتقنها تاجر أموي دمشقي محترف ورث حرفة التجارة عن آبائه وأجداده ولا تساوي القيم الأخلاقية إلا أقل من قيمة مسمار في نعل حذائه. فقد كان يصرف من تلك «المقتنيات» كلما شعر بضيق ذات اليد أو الحاجة إلى إبرام صفقة ما عند منعطف تاريخي معين. وهكذا رأينا كيف أنه لم يتردد حتى في تكليف الملك الأردني «حسين» بإيصال رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي «إسحاق رابين»، من خلال سفيره في لندن «جدعون رافائيل» في 11 أبريل 1976، لكي يأخذ موافقته على التدخل في لبنان رغم الشروط التي وضعها عليه «رابين»، ومن بينها السماح بإدخال قوافل السلاح الإسرائيلي إلى«الجبهة اللبنانية» («حزب الكتائب» وحلفائه من عملاء إسرائيل) عبر الأراضي الأردنية والسورية، وهو ما لم يكن باستطاعة إسرائيل فعله عبر البحر آنذاك، نظراً للرقابة الصارمة التي فرضتها البحرية السوفييتية على الشواطىء اللبنانية بسبب معارضة موسكو للتدخل السوري في لبنان. وكان سفير شاه إيران في دمشق «محمد پورسرتیپ» وسفير ألمانيا الديمقراطية في طهران «كلاوس فولفKlaus Wolf»»، أول من كشف ذلك في تقارير رسمية منفصلة إلى حكومتيهما، كما رأينا سابقاً وفي «ملحق الوثائق». وفي مطلع العام 1987 لم يتردد في إعطاء الأوامر لجيشه باقتحام «المقر المركزي» لـ «حزب الله» («ثكنة فتح الله» في «بيروت الغربية») وبإطلاق النار على قياداته الأمنية والعسكرية وتصفيتهم جميعاً أو اعتقالهم، لاسيما منهم «عماد مغنية» المطلوب أميركياً منذ نسفه معسكر «المارينز» والسفارة الأميركية في بيروت خلال اجتماع ضباط وكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط في العام 1983. كما أنه لم يتردد في إعطاء الأوامر لفرع المخابرات العسكرية في لبنان بمنع «حزب الله» من نقل أي قطعة سلاح أو تحريك أي مقاتل من مقاتليه إلى جنوب لبنان خلال حرب التحرير إلا بعد موافقة المخابرات السورية، وبعد تقديم كشوف تفصيلية بكل ما يحركه وينقله من مقاتلين وعتاد ( راجع «ملحق وثائق الكتاب»)! وهذا كله ما دفع «حزب الله» إلى النزول تحت الأرض منذ ذلك الحين وإلى اليوم . وغني عن البيان أن ذلك كله (مع الحملة الدموية الضارية ضد «حزب العمل الشيوعي» في سوريا/ حملة العام 1987) جاء في سياق سعي «الأسد» لتطبيع علاقاته مع الولايات المتحدة. وكانت هذه العلاقات وصلت إلى حضيضها بعد محاولة تفجير طائرة«إلعال» الإسرائيلية في لندن (أبريل 1986)، التي تورط فيها «محمد الخولي» حين وقع في الفخ الذي نصبته له «الموساد»بالاشتراك مع عميلها المزمن «طارق علاء الدين طوبال»، مدير المخابرات الأردنية آنذاك،عبر عميلهما«نزار هنداوي». وكان «طوبال» نفسه جنّد معظم الضباط القادة السوريين، المنحدرين مثله من أصول شركسية،لصالح إسرائيل، قبل وخلال حرب أكتوبر1973، بمن فيهم نائب وزير الدفاع اللواء«عواد باغ أبزاغ»، ومعهم العقيد «رفيق حلاوة» قائد اللواء 68 في «الفرقة السابعة / مشاة»!

  وهو، إلى ذلك، لم يتردد، تحت ضغط التهديد العسكري التركي / الأطلسي- في إبرام «اتفاقية أضنة» الأمنية مع تركيا في أكتوبر 1998، والموافقة (في ملاحقها السرية الأربعة) على تخلي سوريا  قانونياً، وللمرة الأولى في تاريخها - عن «لواء اسكندرون» المحتل، بعد أن كان تخلى عنه سياسياً جواسيسُ وعملاء الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية وفرنسا في«الكتلة الوطنية» («هاشم الأتاسي»، «تاج الدين الحسيني»،«جميل مردم»...إلخ، لفصل علويي «اللواء» عن علويي الساحل السوري)، والسماح للقوات التركية بمطاردة «الإرهابيين» الأكراد حتى عمق 5 كم داخل الأراضي السورية، وتسليم «عبد الله أوجلان» للمخابرات التركية والإسرائيلية من خلال إبعاده عن الأراضي السورية وتزويدهم،عبر«الفرع 235» في المخابرات العسكرية، بصورة عن جواز سفره القبرصي المزور، الذي كان استخرجه له اللواء «محمد ناصيف» مطلع التسعينيات بالتنسيق مع الأدميرال «ليونيداس فاسيليكوبولوس Leonidas Vasilikopoulos»، مدير المخابرات اليونانية! وسيكون من نافل القول أن نذكر هنا أن «الأسد الأب» لم يتردد في إرسال قواته مطلع العام 1991 للقتال تحت راية الجيش الأميركي في «حفر الباطن» لـ «تحرير الكويت» مقابل موافقة واشنطن على إسقاط «الحكومة العسكرية» اللبنانية بقيادة الجنرال «ميشيل عون» والسماح للجيش السوري بقصف «القصر الرئاسي» اللبناني في «بعبدا» من الجو قبل اجتياحه براً!

   غير أن«الأسد الأب»،وبتعبير الصديق الراحل «فيكتور إسرائيليان»،نائب آخر وزير خارجية سوفييتي، وفي سياق مقارنته بالأحمق «أنور السادات» وتهريجه وهذياناته خلال محنة «الجيش الثالث» الذي حاصرته إسرائيل لمدة ثلاثة أشهر في حرب أكتوبر 1973، والمفاوضات بشأن فك الحصار عنه بعد الحرب، «أثبت دائماً أنه لا يمكن أن يشتري على غرار[السادات] سمكاً في الماء وقبل أن يراه مطبوخاً وموضوعاً على مائدته في صحنه الخاص، كما يشهد جميع من تواصلت معهم من الزملاء الديبلوماسيين والصحفيين السوفييت والأوربيين الغربيين والأميركيين على حد سواء، بمن فيهم كيسنجر نفسه(...). وهذا ما سنلاحظه بشكل واضح خلال مفاوضاته الماراتونية مع كيسنجر ربيع العام 1974، ولو أن هذا الأخير تمكن في نهاية المطاف من خداعه والاحتيال عليه فيما يتعلق بالآفاق النهائية للمفاوضات التي جرت بعد أن وضعت الحرب أوزارها» ( داخل الكريملن خلال حرب أكتوبر وما بعدها، الجزء الأول، ص 329).

(...)

    في الواقع هذه الممارسات السياسية العملية هي إحدى تمظهرات الديكتاتوريات البونابرتية، والتي - بسبب الجهل العام، حتى في أوساط المؤرخين ومنظّري العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بخصائص «البونابرتية» واختلافها عن نماذج الديكتاتوريات الأخرى، لاسيما «اليعقوبية» منها - اعتقَدَ الناس أنها تَصْدر عن دوافع «وطنية» تتصل بـ «المصالح الوطنية العليا» للدولة(رغم استحالة وجود «بورجوازية أو دولة وطنية» في أطراف العالم منذ ولادة الإمبريالية نهاية القرن التاسع عشر). غير أن هذا منافٍ للوقائع التاريخية النموذجية المعروفة، المتصلة بتاريخ الديكتاتوريات البونابرتية، لاسيما بعد دخولها في طور التفسخ والتفكك. فسياساتها الخارجية العملية تصدر عن القاسم المشترك لمصالح «ائتلاف طُغَمJuntas »، وعن التناقضات التي تطبع أجنحتها المتصارعة في وهلات معينة، والتي تقتضي الدخول في «تسويات» و«مُقاصّاتClearings»»من هذا النوع. وحين تصل هذه التناقضات إلى نقطة اللاعودة في بنية الديكتاتورية البونابرتية، لاسيما حين تبدأ بالتفسخ والتحلل، تتحول إلى نوع من «ائتلاف إمارات انكشارية» أو حتى «نقابات للجريمة المنظمة» لا تتورع أجنحتها عن البيع والشراء لحسابها الفردي الخاص وليس لـ«حساب الوطن». وهذا ما لمسناه في الثلث الأخير من حكم «الأسد الأب» على نحو صارخ وسافر، لكن وبشكل خاص في عهد ابنه - وريث «العرش الجمهوري».

(...)

   غير أن ما حصل خلال عهد«الأسد الابن» فاق أي تصور يمكن أن يختزنه المرء عن الديكتاتورية البونابرتية حتى في ذروة تفسخها وتفككها وانحطاطها.  فعلى خلاف الأب، الذي لم يكن يرضى شراء سمك في الماء ، بتعبير صديقنا «إسرائيليان»، ولا أن يبيع أي شيء من «أصول الرساميل الرمزية للدولة Symbolic Capital Assets » » إلا إذا حصل مقابله على ما يعادله في قيمته، وإنْ نسبياً، بدأ ابنه عملية بيع الرساميل الرمزية للدولة منذ أيامه الأولى بعد وراثته العرش بإشراف وزيرة الخارجية الأميركية «مادلين أولبرايت» التي كانت القابلة القانونية الراعية لعملية انتقال السلطة بينما كان جثمان الأب لم يزل مسجىً في القصر، وخرجت من اجتماعها المغلق مع الابن لتخبر الصحفيين المنتظرين في الخارج:«لقد حصلت عملية انتقال سلس للسلطة، وبأسلس مما كنا نتصور سابقاً»! وبالتعبير الشعبي : «مبروك، إجاكم صبي»!!


  كان أول ما فعله لبيع الرأسمال الرمزي للدولة، أو على الأقل إبداء الاستعداد لبيعه، هو إرسال شقيقه «ماهر» و اثنين من رفاقه (العميد «محمد سليمان» و العميد «بشير قره فلاح») للاجتماع مع مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية «إيتان بن تسور איתן בנצור» برعاية المخابرات الأردنية  في مارس 2003. (ومن المعتقد أن تجنيد «سليمان» حصل يومها وليس قبل أو بعد ذلك). أما هدف الاجتماع، الذي اقترحته «أسماء الأخرس» ورتّبه «عزمي بشارة»، والذي كشفته صحيفة «معاريف» في مارس 2003، وهو ما أثار غضب «آرييل شارون» الذي اتهم «الموساد» بالتآمر ضده مع غريمه «شمعون بيريز»، فكان التعهد للإسرائيليين باستئناف مفاوضات السلام دون أن تكون «وديعة رابين» هي الأساس ، مقابل تدخل إسرائيل لدى واشنطن وإقناعها بعدم تنفيذ التهديدات التي كان أطلقها «المحافظون الجدد» ضد سوريا، ولاسيما منهم «ديك تشيني» و «ريتشارد بيرل/ أمير الظلام» ، مساعد وزير الدفاع،عشية بدء عملية غزو العراق! وهكذا اجتمع الضباط الموفدون الثلاثة في عمان مع الإسرائيليين، بينما كانت جحافل قوات «التحالف» الغازية تجتاح العراق، وبينما كان مسؤول المخابرات البريطانية في الجنوب العراقي، «رودريك / روري ستيوارت Roderick/ Rory Stewart»، يُطلق سراح شاب سوري لصغر سنه في مدينة «الحلة» بعد ساعات على اعتقاله مع شباب سوريين وعراقيين آخرين، وهو الذي سيعرف لاحقاً باسم «أبو محمد الجولاني»، كما رأينا سابقاً!


 وقد استمرت عملية بيع الأصول الرمزية للدولة حتى وصلت في العام 2005 إلى حد الموافقة على مشروع العميل الأميركي المخضرم «عبد الله الدردري» لبيع أو تأجير أراضي إقليم «باشان» (أو «جيدور» كما يسميه أبناء محافظة درعا) إلى شركة «تنوفا» الزراعية-الصناعية الإسرائيلية عبر كونسورتيوم شركات خليجية - فرنسية، قبل أن يحبط العملية «آصف شوكت»، كما أحبطها «علي دوبا» من قبله حين حاول رجل وكالة المخابرات المركزية العتيق «محمد العمادي» تمرير عملية البيع نفسها في العام 1991  لصالح رجال أعمال إسرائيليين وسوريين ولبنانيين («إدمون صفرا»، «عثمان العائدي»، «عمران أدهم» ، «رفيق الحريري»)، كما مرّ معنا سابقاً ( راجع وثائق القضية في «ملحق وثائق الكتاب»)!

   وفي مايو من العام 2007، وعلى هامش «مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب في العراق»، أبرم صفقة تضمنت بيع «عماد مغنية» إلى الأميركيين (وبالتالي الإسرائيليين)، و«تجفيف منابع الإرهاب في سوريا» (اعتقال حوالي ثلاثة آلاف إسلامي من الذاهبين إلى العراق والعائدين منه ، سيجري إطلاق سراحهم ربيع العام 2011)، مقابل«شطب النظام السوري بصفته الاعتبارية وبالصفات الشخصية لبعض ضباطه المتهمين باغتيال الحريري، وتحويل الاتهام إلى حزب الله». وهو ما كان سبب استقالة القاضي البلجيكي النبيل «سيرج براميريتز» من «لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري» يوم 14 يونيو 2007،واستقالتي أنا معه في اليوم نفسه كمساعد له من خارج الملاك الرسمي لـ «لجنة التحقيق»، بعد أن علمنا أن مسؤول أمن موكبه «وسام الحسن» و تنظيم «القاعدة» («مجموعة الـ 13» التي قادها عميل المخابرات السعودية «فيصل أكبر») هم من وقفوا وراء التنفيذ الميداني لعملية الاغتيال من أجل إخراج الجيش السوري من لبنان، ثم من أجل شيطنة «حزب الله»، وأيقنّا أن «اللجنة» ليست في واقع الأمر سوى وكر للدعارة السياسية والمخابراتية الدولية. وهو ما اعترف به ضمناً «جيفري فيلتمان»، سفير واشنطن في لبنان آنذاك،حين كشف في شهادته أمام «لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس» بتاريخ 8 يونيو 2010 أن الإدارة الأميركية دفعت نصف مليار دولار من أجل شيطنة «حزب الله» وتشويه سمعته، لكنها فشلت في ذلك! [ راجع هنا أيضاً تحقيقاً وثائقياً عن الصفقة الأميركية - السورية كنت نشرته بالإنكليزية قبل نحو خمس سنوات].

(...)

  لم يكن ثمة بدّ من التذكير ببعض وقائع «السياسة العملية» التي انتهجها النظام البونابرتي، سواء في مرحلة صعوده أو انحطاطه وتفسخه،من أجل محاولة فهم ما جرى يوم 27 سبتمبر 2024، وما الذي قاد إليه خلال الأسابيع أو الأشهر التي سبقت عملية اغتيال«نصر الله» بطريقة لا سابقة لها. فقد عكست العملية بحد ذاتها وبطريقة تنفيذها عمق الحقد الذي راكمه ضده أركانُ التحالف الأميركي - الإسرائيلي - السني / التلمودي؛ لا لشيء إلا لأنه كان العقبة الوحيدة المتبقية، بما يمثله من رأسمال رمزي كشخص ومن رأسمال مادي عسكري على الأرض، في وجه عملية تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإعادة سوريا إلى الحضن الأميركي -الإسرائيلي كلياً، بعد أن خرجت منه، وإن جزئياً، حين تمكنت من القضاء على حقبة جواسيس الحركة الصهيونية و «الوكالة اليهودية»، التي مثلتها «الكتلة الوطنية» منذ عشرينيات القرن الماضي (أعني كتلة الأوغاد والجواسيس الذين يطلقون عليهم في الكتب الرسمية والتعليمية لقب «أبطال الاستقلال»: هاشم الأتاسي، شكري القوتلي، جميل مردم، سعد الله الجابري، لطفي الحفار، فارس الخوري، فخري البارودي ...إلخ).

(...)

    منذ اغتيال «نصر الله» حتى الانتهاء من تحرير هذا الكتاب في مارس 2025، لا يزال هناك سر كبير يتعلق بالأيام العشرة الأخيرة من حياته، أي الأيام التي فصلت بين «مجزرة البيجر» في 17 أيلول / سبتمبر و 27 من الشهر نفسه حين ألقت الطائرات الإسرائيلية أكثر من ثمانين طناً من الصواريخ الخارقة للأنفاق على المقر الذي استشهد فيه أصدق رجل في قتال إسرائيل منذ إنشائها، إذا استثنينا «جورج حبش»، وأنبل وأطهر مقاتل في عصرنا إذا استثنينا «تروتسكي» و « تشي غيفارا».

   فور تأكد إسرائيل من نجاح العملية ، خرج الناطق العسكري وغيره من وسائل الإعلام لترداد عبارة لا تزال لغزاً في معناها حتى اليوم :«حصلت العملية بعد أن تلقت إسرائيل معلومة ذهبية عن عودة نصر الله إلى بيروت». وبالعبرية حرفياً : המבצע התרחש לאחר שישראל קיבלה מידע זהוב על חזרתו של נסראללה לביירות.

    أما اللغز في العبارة فهو «المكان الذي كان فيه نصر الله وعاد منه إلى بيروت»! فلو كان في أي مكان آخر في لبنان، لكان اغتياله جرى بطريقة أسهل وأقل «كلفة» من عملية اغتياله في الضاحية! وبناء عليه، يصبح واضحاً أنه كان خارج لبنان. فأين كان ، وماذا كان يفعل!؟

    خلال الأشهر الأخيرة (خريف وشتاء العام 2024)، ورغم الصعوبة البالغة في إجراء الاتصالات من حيث أقيم في «مشفى كرويدون الجامعي» نتيجة لمنعي من استخدام الأجهزة الإلكترونية (إلا خلسة)، تمكنت من إجراء عدد من الاتصالات مع بعض الأصدقاء والمصادر في لندن وموسكو وبيروت، بعضهم سمح بالإشارة إلى اسمه الصريح في بطاقة الشكر المنشورة مطلع الكتاب، لاسيما منهم الملحق العسكري الروسي السابق في لندن ،والصديق العتيق «إيغور كاساتونوف»، القائد الأسبق لأسطول البحر الأسود في العهد السوفييتي،وأربعة من المصادر الإيرانية على رأسهم الصديق الدكتور«عماد أبشناس»، رئيس تحرير صحيفة«إيران ديبلوماتيك» القريبة من «الحرس الثوري» و وزارة الخارجية، والمعروف جيداً في وسائل الإعلام العربية. وكان سؤالي لهذا الأخير عما إذا كان «نصر الله يزور طهران قُبيل اغتياله وتوقف في دمشق في طريق عودته كما تقول معلوماتي الخاصة»؟ أما إجابته الخطية فكانت إنه «لا يستطيع نفي أو تأكيد هذه المعلومة». أما أنا شخصياً، فلم أستطع تفسير إجابة الدكتور «أبشناس» على سؤالي، رغم أنه قريب جداً من مركز صناعة القرار الديبلوماسي والأمني في طهران، ومن قيادة «حزب الله» (خصوصاً وأن والدته لبنانية)، سوى أن لديه معلومات في هذا السياق لا يستطيع الإدلاء بها، لا هو ولا أي أحد من زملائه الذين تواصلت معهم وكانت إجاباتهم متشابهة تقريباً! لكن مقابلته مع قناة «بي بي سي العربية» في 12 ديسمبر 2024 ( منشورة أدناه) ربما تقول بشكل عام ما لم يستطع أن يقوله لي بشكل مفصل! فهو لم يتردد في التأكيد على أن المسؤولين الأمنيين في نظام «بشار الأسد»، وبعلم ومعرفة هذا الأخير،كانوا يسربون خلال الفترة الأخيرة من عمر نظامهم (بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة) معلومات إلى إسرائيل عن الضباط الإيرانيين  وقادة المقاومة لكي يسهّلوا عليها اغتيالهم!


 

  في أي حال، كانت قضية زيارة «نصر الله» السرية إلى دمشق و/أو طهران هي أصعب المسائل التي واجهتني لجهة التحقق منها خلال تحرير هذا الكتاب؛ ولم يكن بالإمكان تجاوزها أو القفز عنها، نظراً لما تحتله من أهمية حاسمة في مسلسل التطورات الدراماتيكية التي شهدتها سوريا ولبنان خلال الشهرين الأخيرين من عمر النظام، فضلاً عما تحتله عملية اغتيال«نصر الله» بحد ذاتها كنقطة تحول مفصلية حاسمة في هذا السياق. ومع ذلك فقد تمكنت من تحصيل المعطيات التالية والتثبت منها، علماً  بأني نشرت مضمون بعضها في حينه على صفحتي في «فيسبوك» دون أن تلاقي أي اعتراض أو نفي من أوساط «الحزب» ونوابه في البرلمان، الذين يتابع بعضهم ما أكتبه منذ حرب تموز 2006(حين انفجرت قضيتي مع وزير الاتصالات «مروان حمادة» أمام القضاء اللبناني، على خلفية الغارة الإسرائيلية المدمرة على «مجمع الإمام الحسن» في اليوم الأخير من تلك الحرب، وأصدر المدعي العام، القاضي السافل «سعيد ميرزا»، تعميماً باعتقالي عبر الإنتربول الدولي وشرطة باريس، حيث كنت أقيم):

ـ بعد  أن تمكن الإسرائيليون من اغتيال معظم قادة الصف الأول والثاني في الجهازين العسكري والأمني، لاسيما قادة «فرقة الرضوان» والقائد العسكري للحزب «فؤاد شكر» في 30 تموز / يوليو 2024، أيقن «نصر الله» أن الحرب اتخذت مساراً مختلفاً تماماً عن تقديراته الأولى ، التي تبين أنها خاطئة كلياً، حين قرر الدخول في «حرب مساندة» لغزة. وقد تأكد له الأمر على نحو قطعي بعد الإنزال الجوي - البري الإسرائيلي على «مركز البحوث العلمية» في «حير عباس / مصياف» ليلة 8 / 9 أيلول - سبتمبر  بتواطؤ من الروس الذين عطلوا راداراتهم البحرية والجوية في محافظة طرطوس. وأذكر أني حين نشرت تقريراً خاصاً عن الإنزال بعد يوم واحد على حصوله، وقلت إنه «سيغير خارطة الشرق الأوسط إلى الأبد»، أرسل لي أحد نواب «حزب الله» في البرلمان اللبناني («كتلة الوفاء للمقاومة») رسالة من ثلاث جمل عبر رقم «واتس أب» خاص لا يعرفه سوى عدد قليل من الأصدقاء ، قال لي فيها ما حرفيته :« ما كتبتَه اليوم عن الإنزال في مصياف أبلغُ تعبير سمعته حتى الآن منذ بداية الحرب، ولا يقوله إلا من يعرف ماذا كان يوجد في مصياف وما الذي حصل هناك، وماذا ستكون نتائجه الكارثية»!

     كان «نصر الله» وقادته العسكريون والأمنيون يعرفون ، بطبيعة الحال،أكثر بكثير مما أعرفه أنا أو غيري عن المنعطف الذي شكله الإنزال، وعن مغزاه العسكري الاستراتيجي، وما الذي سيترتب عليه. فقد كان واضحاً أن إسرائيل قررت إبادة «حزب الله» من خلال شن هجوم بري بجميع الفرق الخمس التي حشدتها في شمال فلسطين، بعد أن نقلت فرقتين أو ثلاثاً من قطاع غزة ومحيطه. ولكن ذلك لم يكن ممكناً دون تأكدها الاستباقي من أن «الحزب» لن يكون قادراً على تنفيذ«ضربة جوابية» تستهدف البنى التحتية العسكرية والمدنية الاستراتيجية في إسرائيل (خزانات الأمونيا،المطارات، الموانىء، ديمونا، معهد نيتس زيونا / وايزمان، عقد الاتصالات والسيطرة...إلخ) . ولهذا كان لا بد من القيام بـ«إنزال مصياف» وتدمير الموقع بعد الحصول على «داتا» معلوماته من أجل إخراج جميع أو معظم الصواريخ الاستراتيجية لحزب الله ( ما يسمى الصواريخ النقطية) من العمل، وضمان عدم إمكانية استخدامها في أي ضربة جوابية. وهذا ما حصل فعلاً حين راح الناس يتساءلون بعد أن بدأ الهجوم البري، وخصوصاً بعد الحملة الجوية المدمرة يوم 23 سبتمبر: أين صواريخ «حزب الله» النقطية والاستراتيجية التي يتحدثون عنها منذ سنوات (دون أن ينتبهوا، لأنهم يجهلون علاقة إنزال مصياف بذلك، إلى أن الإنزال تسبب بإخراج كل أو معظم ترسانة الحزب من هذه الصواريخ من المعركة)!؟

ـ بعد خمسة أيام على «إنزال مصياف» ( في 17 سبتمبر) ازداد يقين «نصر الله» بأن إسرائيل و واشنطن اتخذتا قراراً نهائياً بإبادة «الحزب» عسكرياً حين حصلت «مجزرة البيجر» التي طالت قرابة خمسة آلاف من المقاتلين ومن «قوة الرضوان» والمؤسسات المدنية التابعة للحزب (بما فيها المؤسسات الصحية والخدمية المختلفة). بل أكثر من ذلك : توصل إلى نتيجة نهائية حاسمة : اتُّخذ قرار إسرائيلي -أميركي - سعودي بتصفيته هو شخصياً، وهو ما كان خطاً أحمر منذ حرب تموز 2006 ونتائجها التي رسمت «قواعد اشتباك» جديدة. ولهذا قام يوم الجمعة 19 سبتمبر بوداع جمهوره علناً والإيحاء لهم بأن «استشهاده أصبح قريباً جداً»، حين ختم خطابه في تأبين القائد العسكري للحزب،«فؤاد شكر»، بعبارته القائلة: «الى اللقاء مع انتصار الدم على السيف، الى اللقاء في الشهادة ، الى اللقاء في جوار الأحبّة»! وكل من سمع هذه الجملة أدرك في الحال أنها «خطبة الوداع». ويوم الثلاثاء 24 سبتمبر، في اليوم التالي للحملة الجوية الإسرائيلية المهولة على مقرات وقواعد «الحزب» في جميع أنحاء لبنان، ذهب - كما أكد لي مصدر وثيق الصلة بـ «كتلة الوفاء للمقاومة» - إلى زوجته والتقى بها في مكان سري لقاءً وداعياً للمرة الأخيرة وأبلغها حرفياً«هذا هو اللقاء الأخير»، قبل أن يتوجه إلى «غرفة العمليات» ويجتمع مع من تبقى من قادته العسكريين على قيد الحياة،ويجري بعض الاتصالات، ليتوجه في اليوم التالي ( 25 سبتمبر) إلى طهران من أجل بحث كيفية تغيير الاستراتيجية العامة للمواجهة بعدما ثبت أن الأميركيين والإسرائيليين اتخذوا قراراً حاسماً بالقضاء عسكرياً على الحزب و تغيير خريطة المنطقة بضربة واحدة.

ـ عند هذه النقطة تختلف معلومات المصادر. فبعضها أبلغني بأن «نصر الله» لم يذهب إلى طهران، بل إلى دمشق فقط  للبحث في «أسباب الإجراءات التي بدأ النظام يتخذها منذ أواسط الصيف ضد المواقع العملياتية واللوجستية الاستراتيجية الخاصة بالحزب داخل الأراضي السورية» و «تورط النظام أو جهات منه في التواطؤ مع موسكو وإسرائيل لتسهيل عملية الإنزال على موقع مركز البحوث في مصياف» ليلة 8 / 9 سبتمبر، وليطلب من «الأسد»، بحضور مستشاره الأمني «علي مملوك»، فتح جبهة الجولان، على الأقل «لتشتيت الهجوم الإسرائيلي الوشيك الذي يهدف إلى تغيير وجه المنطقة نهائياً (...). لكن الأسد رفض وأبلغه بأن سوريا غير معنية بمعركة ورطنا فيها الأخوان المسلمون (حماس) بالتواطؤ مع قطر و الجاسوس عزمي بشارة وتركيا، وكانوا أول من شكل المجموعات المسلحة وأرسل الأموال والسلاح إلى دمشق في العام 2011 » . وكان «بشار الأسد» يشير بذلك إلى أفعال العميل القطري «كمال غناجة»،الممثل العسكري والأمني الرسمي لـ «حماس» في سوريا منذ اغتيال سلفه  «محمود المبحوح» مطلع العام 2010 في دبي . وقد ضبط يومها  في منزل «غناجة» في «قدسيا» بريف دمشق مبلغ 25 مليون دولار كان أرسلها العميل التركي- القطري «خالد مشعل» لتشكيل منظمات إسلامية سلفية وأخوانية مسلحة في دمشق وريفها( ما سيُعرف لاحقاً بـ «كتائب أكناف بيت المقدس» و «كتائب عائشة أم المؤمنين» ...إلخ). وهذا ما دفع المخابرات الجوية بعد اكتشاف ما يقوم به «غناجة» ( أواخر حزيران / يونيو 2012) إلى إعدامه داخل مكتب اللواء «جميل حسن» ،كما كشفتُ في حينه على موقعنا الإخباريSyriaTruth . وقد نشرت يومها تقريراً سرياً صادراً عن «مكتب الأمن القومي» إلى «بشار الأسد» حول ذلك (صورة منه معاد نشرها في «ملحق وثائق» هذا الكتاب). كما أن كلام «بشار» كان يشير ضمناً إلى «ورقة تقدير موقف» أعدها «عزمي بشارة» سراً صيف العام 2023 لصالح إحدى الجهات الأمنية، أشار فيها إلى أن « قيام حماس بعملية نوعية ضد المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة ، وشنَّ إسرائيل حرباً مدمرة على غزة رداً على ذلك، سيشكلان أفضل فرصة بالنسبة لإسرائيل للقضاء على حزب الله وزعيمه،لأن هذا الأخير،ولأسباب دينية وأخلاقية وسياسية،من المستحيل أن يبقى بمنأى عن مساندة غزة مهما كانت العواقب فيما لو اندلعت حرب...إلخ». وقد وصلت ورقة«تقدير الموقف» هذه إلى السفير الألماني في الدوحة «لوثر فرايشلادر Lothar Freischlader»، ومنه إلى إسرائيل بطبيعة الحال، إنْ لم يكن «بشارة» أرسلها إلى تل أبيب مباشرة «كنصيحة» و أقنع «حماس» - في الآن نفسه - بشن عملية نوعية في «غلاف غزة» لتغيير حالة الستاتيكو التي تعيشها القضية الفلسطينية! وهذا ليس مستبعداً بطبيعة الحال،باعتباره عميلاً إسرائيلياً مزمناً  منذ الثمانينيات على الأقل(كما أبيه «أنطون بشارة»، الذي أصدر قائد جيش الإنقاذ «فوزي القاوقجي» قراراً بإعدامه خلال حرب العام 1948 بسبب ضلوعه في أعمال تجسسية لصالح المقدم «يروخام كوهين ירוחם כהן »، ضابط المخابرات االعسكرية في قوات «البلماخ» في الجليل الفلسطيني الأعلى). فحين كان «بشارة الابن» طالباً موفداً في منحة دراسية من قبل«الحزب الشيوعي الإسرائيلي» لمتابعة دراسته العليا في «جامعة هومبولت» في «برلين الشرقية» ضبطته استخباراتها بجرم التجسس المشهود في العام 1985 لصالح «أفيف شير-أون אביב שיר-און »، رئيس محطة الموساد في العاصمة الألمانية الغربية «بون»، بالإضافة إلى محاولة تجنيد الملحق العسكري السوري في «برلين الشرقية»، المقدم «فاروق جاويش»، ومحاولة الحصول على الملف الطبي للقائد الشهيد«وديع حداد» في«مشفى جامعة هومبولت» التي كان يُعالج فيها بعد أن سممه «صدام حسين» ورئيس مخابراته «سعدون شاكر المفرجي» لصالح مستشار الأمن القومي الأميركي «زبغنيو بريجنسكي» ورئيس الموساد «يتسحاق هوفي». كما ضبطته وهو يبحث عن الشقة/ الشقق الحكومية التي كان ينزل فيها «جورج حبش» ضيفاً على قيادة ألمانيا الشرقية خلال زياراته الرسمية السرية التي كان يقوم بها إلى برلين الشرقية أو خلال زياراته الخاصة لابنته التي كانت يومها طالبة في كلية الطب بجامعة التكنولوجيا!(سبق ونشرتُ بعض الوثائق الألمانية ذات الصلة). وقد حصل النظام السوري على «تقرير بشارة» (ورقة «تقدير موقف») من الإيرانيين،والأرجح عن طريق أحد الديبلوماسيين الألمان المعروفين بتعاطفهم السري مع الملف النووي الإيراني بسبب كراهيته للإسرائيليين و «اليهود»!

ـ في أي حال، وبغض النظر عمّا إذا كان «نصر الله» زار طهران وتوقف في طريق عودته في دمشق لتدارس النتائج التي توصل إليها في العاصمة الإيرانية مع «بشار الأسد»، وهو أمر لا يمكن استبعاده، نظراً لأن أي قرار استراتيجي يتعلق بمسار الحرب لا يمكن أن يكون إلا بالتشاور مع طهران ودمشق (...) ثمة وثيقة تؤكد الجزء الأخير  من قصة الزيارة، أو على الأقل ترجحه بقوة. فالوثيقة هي عبارة عن برقية صادرة في الساعة الثالثة والربع من فجر يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2024 عن مفرزة المخابرات العسكرية السورية على الحدود اللبنانية (في منطقة «كفير يابوس»)إلى مرجعيتها الأمنية، وهي «الفرع 227» (فرع المنطقة / دمشق) في المخابرات العسكرية. وتتحدث البرقية عن العدوان الجوي الإسرائيلي الذي حصل فجر ذلك اليوم (عند حوالي الواحدة والنصف بعد منتصف الليل) على «الطريق العسكري» قرب نقطة الحدود السورية - اللبنانية (وعلى باقي المعابر الحدودية الأخرى في الواقع). و«الطريق العسكري»، لمن لا يعرفه من غير السوريين، هو طريق أنشأه و دشنه الجيش السوري عند تدخله في لبنان في العام 1976، رغم أنه كان موجوداً قبل ذلك كطريق ترابي، وبقي محصوراً استخدامه بالجيش السوري وفصائل المقاومة الفلسطينية ثم «حزب الله» حتى إغلاقه بعد تسليم السلطة لـ «جبهة النصرة» والجاسوس الإسرائيلي - البريطاني «أبو محمد الجولاني»


   تتحدث البرقية عن سقوط خمسة شهداء من قوات حراس الحدود السوريين وعدد من الجرحى جرّاء العدوان الإسرائيلي ، وهو ما يتطابق مع تقارير وسائل الإعلام في ذلك اليوم عن استهداف معبر «كفير يابوس»(انظر هنا تقرير «الجزيرة» على سبيل المثال). لكن أهم ما في البرقية هو العبارة المكررة التي تشير إلى أن «موكب صديقنا الشيخ اللبناني، المبلغ عنه في برقيتكم لم يتعرض لأي أذى، وتابع طريقه إلى لبنان بعد ترجل وانتشار ركاب الموكب في البساتين المجاورة لبعض الوقت وإلى حين اختفاء الطيران المعادي من سماء المنطقة».

   تعبير«صديقنا الشيخ اللبناني» الوارد في البرقية لا يمكن أن يشير، خصوصاً في مثل هذا الوقت من الليل وفي تلك الظروف، إلا إلى المغدور «نصر الله».

   وفق أكثر من مصدر استمعت إليه خلال الأسابيع الأخيرة وأنا أقوم بتحرير هذا الكتاب (أواخر 2024 وأوائل 2025)، وفي حدود ما سمحت لي ظروف التواصل من المشفى، فإن «نصر الله» عقد اجتماعاً مع «الأسد» و «مملوك» إلى ما بعد منتصف ليلة 26 / 27 سبتمبر حين انطلق موكبه عائداً إلى بيروت عبر «الخط العسكري» الذي يسلكه دائماً. وإذا علمنا أن المسافة بين «قصر الشعب» و قرية «كفير يابوس» الحدودية يتراوح ما بين 40-45 كم،ويستغرق قطعها  ما بين 40 -50 دقيقة، تبعاً للسرعة وظروف الحركة، وأخذنا بعين الاعتبار الزمن اللازم لتجهيز الموكب أمنياً ولوجستياً للانطلاق، فإن هذه المعطيات تتوافق منطقياً مع توقيت العدوان الإسرائيلي على «كفير يابوس» (حوالي الواحدة و 35 دقيقة بعد منتصف الليل، فجر 27 سبتمبر، وفق البرقية). أما الملاحظة الواردة في البرقية عن أن الموكب لم يتعرض لأذى وتابع طريقه بعد ترجل ركابه وانتشارهم في البساتين المجاورة حتى اختفاء الطيران المعادي من سماء المنطقة، وأن «الإسرائيليين لم يعرفوا على الأرجح هوية الموكب ، وإلا لكانوا كرروا قصفه»، فهي ملاحظة ذكية ومنطقية من كاتب البرقية، وتعني أن الإسرائيليين لم يكن لديهم علم حتى تلك اللحظة بهوية الموكب، أو أنهم أجلوا استهدافه إلى وقت لاحق لسبب خاص سنحاول تفسيره أدناه. ولهذا فإن العبارة التي كررها الإسرائيليون عن«المعلومة الذهبية التي وصلتهم عن عودة نصر الله إلى بيروت» بحاجة إلى تفسير، لاسيما وأن البرقية تؤكد بطريقة غير مباشرة وعلى نحو جازم تقريباً أن «صديقنا الشيخ»  ليس في الواقع سوى «نصر الله». وهو ما فهمه أيضاً ديبلوماسي مستعرب( وربما ضابط مخابرات؟) في السفارة البريطانية في عمّان حين كتب على صورة من البرقية ما يفيد بأن «المقصود بعبارة صديقنا الشيخ  هو على الأرجح زعيم حزب الله». وقد حصلتُ على هذه النسخة المسربة إلى البريطانيين بعد أكثر من شهر على حصولي على النسخة الأصلية، و وضعتها معها برقم ( 70 مكرر) في «ملحق الوثائق».

  كيف عرف الإسرائيليون إذن بـ «عودة نصر الله إلى بيروت»، ولماذا لم يحددوا موكبه أو يعرفوه وهو في طريق عودته،إذا أخذنا منطوق البرقية بعين الاعتبار!؟ ويزداد السؤال تعقيداً وإلغازاً إذا صحت المعلومات التي نقلها لي مصدر إيراني، والتي تقول «إن شخصاً ما ينتمي مباشرة لحاشية علي مملوك و/أو بشار الأسد وضع شريحة إلكترونية في السيارة الخاصة بنصر الله أو سيارة مسؤول أمنه الشخصي، ابراهيم جزيني، خلال وجودهما في القصر الرئاسي السوري، لكي يسهل تمييز الهدف والتعرف عليه وتتبع حركته من قبل الإسرائيليين و/أو الأميركيين»!

  هناك تفسيران منطقيان لهذا السؤال المركّب، أحدهما يقول إن «المعلومة الذهبية» تأخرت في الوصول إلى الإسرائيليين لسبب لوجستي/بيروقراطي يتعلق بفرق التوقيت بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة، فضلاً عن وجوب مرور قرار الاغتيال بأكثر من محطة أمنية وسياسية وعسكرية، بما في ذلك «قيادة المنطقة الوسطى» في الجيش الأميركي في «قاعدة العديد»، بافتراض أن هذه الأخيرة كانت مركز تحويل المعلومة إلى إسرائيل و/أو الولايات المتحدة(...). فالإسرائيليون يحتاجون إلى موافقة «البيت الأبيض» المسبقة حين الإقدام على عمل بهذا الحجم قد تترتب عليه تداعيات أمنية كبرى، فضلاً  عن أن صاحب القرار النهائي في الأمر، «نتنياهو»، كان آنذاك في نيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة. ومن المعلوم أنه اتخذ قرار الاغتيال، كما ظهر في شريط فيديو يتبجح فيه بما أقدم عليه، من داخل مقر الأمم المتحدة. وهذا الجانب اللوجستي (التأخر في إيصال «المعلومة الذهبية» والتعامل معها) هو ما سمح لموكب «نصر الله» بالوصول إلى بيروت بطريقة آمنة قبل استهدافه مساء ذلك اليوم(...).

  أما التفسير الآخر فيقول إن «المعلومة الذهبية» ربما وصلت على الفور دون أي تأخير، لكن الإسرائيليين تعمدوا تأجيل الضربة حتى المساء (الساعة 18 و20 دقيقة) لعلمهم منطقياً أن «نصر الله» من المحتم أن يجتمع مع أركان قيادته السياسية و/أو العسكرية فور عودته إلى بيروت لبحث نتائج زيارته واتخاذ قرارات معينة في ضوئها، وهو ما سيمكنهم من تنفيذ ضربة كبرى تحصد أكبر عدد ممن تبقى من قيادة الحزب. ولعل هذا هو الأكثر ترجيحاً من وجهة نظري في ضوء حجم وطبيعة المواد المتفجرة التي ألقيت على المكان،وهي قنابل  خارقة للتحصينات من نوع GBU-31 تزن في مجموعها حوالي 83 طناً، والتي مسحت ستة أبراج / بنايات عن وجه الأرض كلياً، وأحدثت حفرة بعمق ارتفاعها تقريباً. ويتضح من أسماء وطبيعة مهمات الذين استشهدوا مع «نصر الله»، أن هذا على الأرجح ما أخر الضربة الإسرائيلية ( بحيث يكون هناك تجمّع لأكبر عدد ممكن من قادة الحزب). فقد عُلم حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر( 20 أكتوبر 2024)،أن الغارة المدمرة أودت بحياة «علي كركي» (قائد جبهات الجنوب  الثلاث)، و«علي أيوب»( قائد الوحدات الصاروخية) و«عبد الأمير سبليني» (قائد غرفة العمليات) و اللواء «عباس نيلفروشان»، نائب قائد عمليات «الحرس الثوري»،الذي كان  يقوم بمهمة المستشار العسكري الخاص لــ «نصر الله» خلال الحرب، والذي يُرجَّح أنه رافقه في رحلته «اللغز» إلى طهران و/أو دمشق، أو جاء معه من طهران؟ وهؤلاء هم المعنيون مباشرة باتخاذ أي قرار عسكري مركزي نوعي وتنفيذه . ولا يقل أهمية عنهم،على الأقل من زاوية ما يتعلق شخصياً بـ «نصر الله»، عدد من الأمنيين والإداريين الآخرين الذين استشهدوا أيضاً، وعلى رأسهم «ابراهيم جزيني» مسؤول أمنه الشخصي الذي حل محل«عماد مغنية» في هذه المهمة منذ العام 2008، والدكتور«حسن محمد سلمان»، طبيبه الخاص، والعشرات الآخرين من العاملين في المقر والمدنيين القاطنين في محيط المنطقة المستهدفة.  

(...)

  ولكن، ما الذي يدفع «بشار الأسد» ونظامه إلى بيع «نصر الله» عند ذلك المنعطف الاستراتيجي الحاد من تاريخ المنطقة!؟

 هنا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، فضلاً عن تاريخه الخاص وتاريخ صفقاته الأمنية التي ذكرنا عدداً منها سابقاً، بعضَ المعلومات السياسية والشخصية والوثائق ذات الصلة، التي تندرج تحت عنوان«السياسة العملية» التي تنتهجها ديكتاتورية من طراز«بونابرتي» في حالة تفكك وتعفن وتفسخ، كما حاولنا تحليل بينتها وسلوكها في فصول القسم الثاني من هذا الكتاب. وأهم تلك المعلومات والمعطيات:

1)   ـ مبادرة دول الخليج (باستثناء قطر) إلى تطبيع العلاقات مع نظام دمشق منذ العام 2018، بما في ذلك إعادة افتتاح سفاراتها المغلقة في دمشق واستقبال رأس النظام في الرياض و أبو ظبي؛ وهي  مبادرة قامت - بالتنسيق مع واشنطن - على أساس تعهد النظام بالابتعاد تدريجياً عن إيران و تضييق الخناق على «حزب الله» و «فصائل المقاومة الفلسطينية». وقد بادر«الأسد» فعلاً، خصوصاً منذ صيف العام 2024، كما نَشرتُ في حينه،إلى إغلاق العديد من «مكاتب الحزب» في «السيدة زينب» قرب دمشق، وفي حلب وحمص ومناطق أخرى، وصولاً إلى صدور أمر من وزير الدفاع «علي محمود عمر عباس»، بناء على «توجيهات القائد العام بشار الأسد»، يقضي - في ذروة الحرب- بمنع «الحزب» من استخدام مخازن أسلحته الصاروخية الاستراتيجية الموجودة داخل الأراضي السورية (في منطقة القلمون وحوض نهر العاصي)، و منعه من استخدام أنفاق الإمداد السرية الواصلة بين البلدين في أكثر من منطقة (راجع صورة عن القرار في «ملحق وثائق الكتاب»). وكان هذا القرار أحد الأسباب المباشرة والقاهرة لموافقة «حزب الله» على العرض الأميركي -الإسرائيلي بوقف إطلاق النار فجر يوم 27 نوفمبر 2024، بعد أن أدرك أن طريق إمداداته، سواء من طهران عبر المطارات العسكرية السورية أو من مخازنه في الجبهة الخلفية السورية، قد أصبحت شيئاً من الماضي  حتى قبل أن يجري تسليم السلطة لعملاء إسرائيل وتركيا من «جبهة النصرة» التي أنشأتها المخابرات البريطانية صيف العام 2011؛وأن عليه - والحال كذلك- الاحتفاظ بما سلم من أسلحته الاحتياطية بعد الحملة الجوية الإسرائيلية الهائلة والمدمرة على جميع مواقعه في لبنان يوم 23 سبتمبر،والتي شارك فيها سلاح الجو الإسرائيلي بأكمله، حيث شن أكثر من ألف وستمئة غارة نهار ذلك اليوم. وهناك معطيات شبه مؤكدة تفيد بأن الطيران الأميركي والفرنسي الموجود في«قاعدة الأزرق» في الأردن،فضلاً عن طائرات «يوروفايتر» و«تايفون» القاذفة و طائرات«يو-2»الاستطلاعية الموجودة في قاعدة «أكروتيري - ديكليا» البريطانية في قبرص،شاركت في هذه الحملة الجوية التي لا نظير لضراوتها وكثافتها منذ الغزو الأميركي للعراق، نظراً لأن الطيران الإسرائيلي لم يكن بإمكانه شن هذه الغارات كلها خلال يوم واحد لأسباب لوجستية وعملياتية يتصل بعضها بنقص في كوادر الملاحة الجوية والأرضية وحالة الإرهاق التي أصابتهم منذ بدء الحرب الإبادية على غزة، ثم على لبنان! وقد أصبح معلوماً أن هذه الأنفاق العابرة للحدود السورية - اللبنانية هي التي كان الإسرائيليون أول من وضع يدهم على مداخلها من جهة الأراضي السورية بعد تنفيذهم إنزالات جوية بمساعدة ميليشيات عميلهم «الجولاني» فور سقوط النظام. وقد نشرتْ هذه الميليشيات أشرطة فيديو تثبت ذلك،ولكن بعد إزالة الظهور الإسرائيلي فيها! هذا مع العلم بأن «وليد جنبلاط» كان أول من كشف للأميركيين في العام 2007، وتحديداً لصديقه«جيفري فيلتمان»،وبالتالي الإسرائيليين،أن«حزب الله، وبالتعاون مع مهندسين إيرانيين ومن كوريا الشمالية، يقوم بحفر أنفاق تحت الحدود السورية - اللبنانية من أجل تهريب الأسلحة، ولتفادي المراقبة الجوية لقوافل سلاحه بعد حرب تموز 2006».

2)   ـ كان «محمد بن زايد» طلب من «بشار الأسد»، خلال زيارة هذا الأخير إلى «أبو ظبي» في آذار /مارس 2022،تعيين «علي محمود عباس» وزيراً للدفاع ونائباً للقائد العام للجيش والقوات المسلحة «لأن تعيينه سيكون رسالة إيجابية للولايات المتحدة وباقي الأشقاء في الخليج»، وهو ما فعله «الأسد» فور عودته من الإمارات، متخطياً عدداً من الأسماء التي جرى تسريح أصحابها، رغم أنهم الأكثر جدارة على الأقل من ناحية الأقدمية العسكرية. والواقع  لم يكن طلب «بن زايد» أمراً غريباً أو خارج السياق؛ فقد كانت الإمارات العربية «جندت» العماد «علي محمود عباس» منذ أن كان موفداً برتبة مقدم لاتباع دورة أركان في كلية الأركان الباكستانية (الأكاديمية العسكرية الباكستانية) في العام 1997.وفي العام 2001 وقفت «أسماء الأخرس» ومشغّلوها البريطانيون ، رغم أن أنظمة الجيش السوري وعقيدته العسكرية العملياتية ذات طابع شرقي مختلف عن الأنظمة الأطلسية الغربية، وراء إرساله في بعثة دراسية إلى«الكلية الملكية البريطانية للدراسات الدفاعية» حيث بنى هناك علاقات خاصة مع الجهات الأمنية والعسكرية في لندن، قبل أن ترسله في بعثتين دراسيتين أخريين إلى الأكاديمية العسكرية الملكية في السويد وأكاديمية«بريدا» العسكرية الملكية في هولندا(Koninklijke Militaire Academie)، والتي تعتبر أحد أهم أوكار خبراء الحلف الأطلسي الاستراتيجيين!

3)   ـ كانت مجموعة «الأسد الابن»، كما رأينا في فصول سابقة، بدأت إبرام «صفقات المقايضة» منذ أيامها الأولى، وصولاً إلى الصفقة التي أبرمتها على هامش «مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب في العراق» ربيع العام 2007، والتي انتهت -كما أشرت سابقاً- إلى بيع «عماد مغنية» إلى الأميركيين (وبالتالي الإسرائيليين)،و«تجفيف منابع الإرهاب في سوريا» (اعتقال حوالي ثلاثة آلاف إسلامي من الذاهبين إلى العراق والعائدين منه)، مقابل «شطب النظام السوري بصفته الاعتبارية وبالصفات الشخصية لبعض ضباطه المتهمين باغتيال الحريري، وتحويل الاتهام إلى حزب الله» (...).

4)   ـ كان النظام أعلن رسمياً استعداده لبيع «حزب الله» كله والتخلص منه، بقضه وقضيضه، والتطبيع مع إسرائيل إذا ما وافقت هذه الأخيرة على إعادة الجولان ولو جزئياً وليس كلياً، وعلى نحو تدريجي. وهو ما جاء في أكثر من تصريح لأكثر من مسؤول رسمي، لعل أقربها إلى أيامنا ما جاء في مقابلة وزير الخارجية «وليد المعلم» مع «الغارديان» البريطانية في 10 فبراير 2010. وحين سألت «المعلم» عن القضية، وكانت علاقتنا وصلت إلى مرحلة متقدمة جداً من الثقة المتبادلة بعد ثلاث أو أربع سنوات من التواصل الخفي، لم يتردد في أن يؤكد لي خطياً أن «بشار الأسد ومعه مكتب الأمن القومي هما من طلب منه القول إن سوريا مستعدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وحل مشكلة حزب الله مقابل انسحاب جزئي وتدريجي من الجولان وليس مقابل انسحاب كامل» (راجع مقابلته مع «الغارديان» هنا ، وصورة عن رسالته في «ملحق وثائق» هذا الكتاب). وهذا كله يؤكد الرأي الذي تبنيته طوال العقود الأربعة الماضية، والذي يقول إن دعم النظام السوري للمقاومة، ومنذ استيلاء «حافظ الأسد» على السلطة في انقلابه البريطاني - السعودي - الأردني في العام 1970، ليس سوى أكذوبة سوقية رخيصة لا يصدقها سوى الأغبياء والحمقى،أو شعبوي أبله ومقيت من نوع أولئك السوريين واللبنانيين الذين يكتبون مقالات «مقاومجية» في «الأخبار» اللبنانية أو يظهرون على قناة «الميادين»...القرباطية! ولعل حفنة صغيرة فقط من السوريين والعرب الآخرين تعرف أن جوهر الخلاف الأساسي بين «الأسد» (وزير الدفاع آنذاك) ورفاقه، من الجناح «اليعقوبي» في السلطة آنذاك («الأتاسي»، «زعين»، «جديد»)، هو مسارعته إلى تبني قرار مجلس الأمن رقم 242 (القاضي بالاعتراف بإسرائيل) منذ اللحظات الأولى لصدوره، فضلاً عن دعمهم المبدئي غير المشروط للمقاومة الفلسطينية ، بينما كان هو يريد وضع اليد عليها، لاستخدامها كورقة تفاوضية، منذ أن صاغ رئيس شعبة المخابرات العسكرية،اللواء«أحمد سويداني»، بيانها الأول في مكتبه مطلع العام 1965 (بيان «قوات العاصفة» / فتح). وهذا ما كان عبّر عنه شخصياً في لقاءاته مع المسؤولين البريطانيين خلال زياراته السرية الثلاث إلى لندن، والتي قام البارون «فيكتور روتشيلد الثالث» بتهريب محاضرها إلى مشغلّه «ماركوس فولف» في «برلين الشرقية»، كما سبق ورأينا في القسم الثاني من هذا الكتاب وفي «ملحق الوثائق». إضافة إلى ذلك، إن قلة قليلة أيضاً تعرف أن «الأسد» هو شخصياً من أصدر، بصفته وزيرا للدفاع، أمراً باختطاف واعتقال «جورج حبش» في العام 1968 قبل أن يحرره «وديع حداد» بعملية أمنية خاصة وينقله من قلب دمشق إلى لبنان، فقط من أجل تمكين «تيار نايف حواتمة» في «الجبهة الشعبية» من عقد مؤتمرها في غيابه والانشقاق عليها، كونه كان من أنصار «الأسد» لجهة اعتبار القرار 242 أساساً مقبولاً للحل السلمي، رغم أنه لم يتضمن حرفاً واحداً عن القضية الفلسطينية، واعتبر هذه القضية مجرد قضية لاجئين!وهذا ما أكده لي شخصياً الصديق «قيس عبد الكريم السامرائي»(أبو ليلى) في العام 1989،حين كنت سكرتيراً لتحرير إحدى المجلات التي تصدرها «الجبهة الديمقراطية» (مجلة «الأردن الجديد» الشهرية،التي كان يرأس تحريرها عضو اللجنة المركزية في الجبهة ، الصديق «هاني حوراني»، وكان «أبو ليلى» هو المشرف الأعلى عليها باعتباره عضواً في المكتب السياسي للجبهة)! فهو، أي «الأسد» الأب، لم يدعم المقاومة الفلسطينية في أي يوم من الأيام على الإطلاق، ولا حتى المقاومة اللبنانية لاحقاً، وإنما كان يستخدمهما كـ«ورقة تفاوضية»، لاسيما بعد خسارته أوراق القوة التفاوضية تباعاً، بدءاً بخروج مصر والأردن مما يسمى «جبهة المواجهة / دول الطوق» وانتقال السلطة في العراق - بترتيب من «بريجنسكي»- إلى عميل وكالة المخابرات المركزية العتيق«صدام حسين»،وصولاً إلى تفكك الاتحاد السوفييتي وكتلته. وقد برز ذلك على نحو صارخ حين اتخذ مطلع العام 1987 قراراً بتصفية «حزب الله» وإبادته و/أو اعتقال قادته ، لاسيما قائده العسكري «عماد مغنية» ، خلال الهجوم الذي شنته «الفرقة 14» بقيادة اللواء «عزت زيدان» على مقر قيادة الحزب آنذاك في «ثكنة فتح الله» في بيروت. وهو ما دفع «مغنية» يومها إلى اعتقال قائد الهجوم، ضابط المخابرات الذي اشتهر لاحقاً،الرائد «جامع جامع»، وحلق شعره وشاربيه أمام سكان «حي البسطة» في «بيروت الغربية»، قبل إرساله مكبلاً مع عدد من ضباطه وعسكرييه إلى قائدهم «عزت زيدان»! وغني عن البيان أن  قرار«الأسد»، كما رأينا في مكان آخر من هذا الكتاب، جاء في سياق الاتفاق مع واشنطن على تطبيع العلاقات بينهما، والتي كانت وصلت إلى حضيضها على أثر تورط رئيس فرع المخابرات الجوية «محمد الخولي» في محاولة تفجير طائرة «إلعال» الإسرائيلية في «مطار هيثرو» بلندن، بعد أن وقع في الفخ الأمني الذي نصبته له الموساد وشريكها «طارق علاء الدين طوبال»،مدير المخابرات الأردنية، من خلال «نزار هنداوي» الذي كان يعمل مع الإسرائيليين والأردنيين في آن معاً. وكان «طوبال» نفسه تمكن، قبل حرب أكتوبر 1973 وخلالها، من تجنيد معظم قادة الجيش السوري المنحدرين مثله من أصول شركسية، بمن فيهم نائب وزير الدفاع، اللواء«عواد باغ أبزاغ»،ومعهم قائد اللواء 68 في الفرقة السابعة، العقيد«رفيق حلاوة»،لصالح الموساد الإسرائيلي! (راجع تفاصيل هذه القضية في الجزء الأول من «فيكتور إسرائيليان، داخل الكريملن خلال حرب أكتوبر وما بعدها، ترجمة وتحرير وتقديم نزار نيوف. لندن، 2021). وحين لم يتمكن «الأسد» من تحجيم «الحزب» و/أو اعتقال قادته، لاسيما «مغنية»، بسبب الموقف الإيراني الحازم، عمد إلى اتخاذ قرار قضى بمنع تحريك أسلحة أو قوات أو مقاتلين من «حزب الله» إلى الجنوب من طريق دمشق- بيروت  طوال فترة حرب التحرير،أي حتى ربيع العام 2000، إلا بعد إعداد كشوف تفصيلية ولوائح اسمية، بكل ما ومن ينوي «الحزب» تحريكه لفائدة خطوط المواجهة الأمامية في الجنوب، وتقديمها مسبقاً إلى «فرع الأمن والاستطلاع في القوات السورية في لبنان»!( راجع صورة عن القرار في «ملحق وثائق الكتاب» [وهنا يساراً . ملاحظة مني أنا ، فيكتوريا]).


5)   ـ  على خلفية هذه الدوافع ، ولغيرها من الأسباب السياسية والأيديولوجية التي وردت معنا في سياق هذا الكتاب، كان نظام«الأسد»، لاسيما في مرحلة تفككه وتفسخه وانحطاطه تحت سلطة الابن الوريث،على استعداد لبيع «الرأسمال الرمزي للدولة»وما تبقى من أصول قوتها، الرمزية والمادية،لمجرد البقاء في السلطة. وهو ما سيتابعه بالتأكيد خليفته العميل والجاسوس الإسرائيلي -البريطاني «أبو محمد الجولاني»، ولكن على نحو أكثر تهتكاً وفجوراً، على الأقل التزاماً منه بالتعهدات و بـ «خريطة الطريق» التي أعدها له «جوناثان باول»، كشرط لتسليمه السلطة، والذي ضمنته فيها تركيا، كما رأينا سابقاً وفي «ملحق الوثائق». هذا إذا لم يكن لشعوره بأنه يحظى بـ «غطاء سني» محلي وعربي لا مثيل له ولم يحظ به أي حاكم سابق،ولأن المسلمين السنة(باستثناء من يتبنى منهم أيديولوجيات وبرامج قومية أو يسارية أو ليبرالية) نفضوا أيديهم من أي قضية و طنية أو قومية منذ عشرات السنين، وأصبح هدفهم الأول أن يكون لديهم حاكم من الطائفة السنية، حتى وإن كان جاسوساً، بينما أصبح عدوهم «الوحيد» هو«الشيعة» بطيفهم الواسع(علويين ودروزاً وإسماعيليين...)، واستعدادهم للتحالف حتى مع الشيطان،وليس مع إسرائيل فقط، ضد هذا «العدو الشيعي»، انطلاقاً من جوهر عقيدة الإسلام السني اليهودي/ التلمودي التي«تعطي الأولوية لمجاهدة العدو القريب (ابن الوطن) ، وليس العدو البعيد / الخارجي»!

(...)

   هذا يقودنا إلى محضر اجتماع «بشار الأسد» مع «بوتين» لحوالي ساعة  يوم السبت 30 نوفمبر 2024 ( من الخامسة إلى السادسة مساء تقريباً بتوقيت موسكو)، قبل أقل من 24 ساعة على عودة الأول إلى دمشق لإجراء ترتيبات تفكيك السلطة والعودة إلى روسيا مرة أخرى، ولكن نهائياً، وفق ما نصت عليه بنود «التفاهم التركي - الروسي» التي سبق  وتوقفنا عندها في الفصل السابق . ( راجع مسودة «وثيقة التفاهم» المحالة في 28 نوفمبر 2024 من قبل وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف» إلى الدائرة القانونية في وزارته لإبداء رأيها،والموقعة بالأحرف الأولى فقط من قبل مدير المخابرات الروسية «سيرغي ناريشكين »، ونظيره التركي «ابراهيم قالين»).

  ففي هذا الاجتماع، الذي حضره من الجانب السوري «بشار الأسد» وحده، دون السماح له بإحضار حتى مترجمه الخاص،ومُنع حتى كبير مرافقيه من دخول«الكريملن» وبقي في «فندق الفصول الأربعةОтель Four Seasons» المجاور له، رغم أن «سيرغي شويغو»، مستشار الأمن القومي كان حاضراً عن الجانب الروسي، رفض «بشار» الموافقة على ما طرحه عليه «بوتين». وفي سياق حديثه اعترف ضمنا بأنه أعطى رأس «نصر الله» للأميركيين و/أو الإسرائيليين، وقال ما حرفيته ( راجع «ملحق وثائق الكتاب»):

«سيادة الرئيس! لا يمكن لأي رئيس منحدر من الطائفة العلوية، حتى وإن كان متزوجاً من أربع نساء سنيات وليس امرأة سنية واحدة،أن يوافق على التخلي عن شبر واحد من الأراضي السورية. فالرئيس الراحل [حافظ الأسد]، وكما تعلمون، خاض [ في أكتوبر 1973] حرباً مدمرة من أجل الجولان، دفعنا فيها أكثر من ستة آلاف شهيد وقرابة 30ألف جريح، ورحل عن هذا العالم وهو يقاتل من أجل عشرة أمتارعلى الضفة الشرقية لبحيرة طبريا ويرفض التطبيع دون استعادة الأرض حتى حدود 4 يونيو 1967، وليس إلى حدود 1923فقط، لكي يضمن عودة تلك الأمتار العشرة. ومع ذلك لا يزالون يتهمونه ويتهمون العلويين بأنهم باعوا الجولان(...). لقد أعطيناهم قبل شهرين أكبر زعيم شيعي في منطقتنا، فماذا يريدون أكثر من ذلك [يقصد : الأميركيين والإسرائيليين وحلفاءهم]!؟ سيادة الرئيس! وحده فقط مسلم منحدر من الطائفة السنية، كما الرئيس الراحل أنور السادات والملك الراحل حسين والرئيس الراحل ياسر عرفات يمكنه فعل ما تطلبونه مني، لأنه سيكون آنذاك مغطى ومحمياً من قبل أكثر من مليار مسلم سني، أما أنا ومعي الطائفة التي أنحدر منها بحكم مولدي، فسنُدمغ بدمغة الخيانة الوطنية إلى الأبد، وربما لن يُبقوا أحداً منا إلا وقتلوه. فإذا كان لا بد مما تقولونه، فليأتِ رئيس مسلم سني يقوم بما تطلبونه مني...».

   هنا قاطعه «بوتين» ولم يدعه يكمل ، ونهض قائماً في إشارة منه إلى انتهاء اللقاء، بينما كان يرد عليه بجملة واحدة : Да будет так («دا بوديت تاك»= فليكن ذلك، إذن)!

 

ن. نيوف / مشفى كرويدون الجامعي، لندن، آذار / مارس 2025.  

No comments:

Post a Comment

Note: only a member of this blog may post a comment.