تحية إلى ذكرى «عمر» و «علي» ... ضابطَيْ شعبة المخابرات العسكرية اللذين وقفا معي في وجه ... «الفريق يزيد بن معاوية الأسدي»!؟
( مقطع عشوائي من سيرة ذاتية قد لا تهم أحداً)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارة :
بعد حوالي عشرين عاماً على السر الذي احتفظَ به، قرر «نزار» الكشف عن الطريقة التي كان يحصل من خلالها على وثائق أرشيف شعبة المخابرات العسكرية، من خلال العميد «عمر شرق» و المقدم «علي فاضل»، وعن الصفقة التي حصلت بين الحكومة الفرنسية و النظام السوري السابق، والتي قضت بـ «تسليم علي فاضل» وتصفيته ... مقابل إطلاق سراح الصحفيين الفرنسيين المختطفين في العراق «جورج مالبرونو» و كريستيان شينو».
«رسالة التحية» هذه كتبها في كانون الأول الماضي (2024)، لكنه طلب مني أن لا أنشرها مع الوثائق ذات الصلة إلا في أيلول 2025، الذي يصادف الذكرى 19 لاعتقال المقدم «فاضل» من قبل «الحرس الجمهوري» قبل تصفيته طبياً في مشفى تشرين العسكري!
(فيكتوريا)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع ورود الأخبار الأولى لاستبدال نظام العميل البريطاني«بشار الأسد» وفراره مع زوجته «كلبة المخابرات البريطانية»، بعصابة يديرها الجاسوس الإسرائيلي - البريطاني القذر «أبو محمد الجولاني»، لا أتذكر سوى أولئك الذين وقفوا معي في سنوات المحنة، خلال فترة السجن وبعد إطلاق سراحي في أيار / مايو 2001؛ وعلى رأس هؤلاء العميد «عمر شرق» نائب رئيس «الفرع248»(فرع التحقيق العسكري في المخابرات العسكرية) و المقدم «علي فاضل» الذي خدم رئيساً لقسم الدوريات والحواجز في «فرع الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية بلبنان» قبل أن يصبح رئيساً لمكتب «غازي كنعان» ثم مكتب اللواء «علي يونس» نائب رئيس شعبة المخابرات العسكرية، قبل أن يصفعه على وجهه ويقرر «الانشقاق و الالتحاق بي في فرنسا»!!
العميد «عمر شرق»:
تعرفت على العميد «عمر شرق»، وكان لا يزال برتبة عقيد، حين كان مديراً لسجن «الفرع 248» (فرع التحقيق العسكري) مطلع التسعينيات. وبحكم موقعه، كان - كما أخبرني لاحقاً- أحد ضباط الشعبة الذين سمعوا بقصة صِدامي مع العميد آنذاك «هشام الاختيار» رئيس «الفرع 227» (فرع المنطقة) منذ الدقائق الأولى لاعتقالي في حي «نهر عيشة» جنوب دمشق من قبل دورية تابعة للفرع بقيادة العقيد «ديب زيتون»، الذي كان يقوده إلى المكان شقيق زوجتي آنذاك «الياس جورج شحود»/ أمين «رابطة اتحاد شبيبة الثورة» في «حي القصاع» بدمشق (1).
يومها (حوالي التاسعة من مساء 2 كانون الثاني/ يناير 1992)، وفور وصولي إلى مكتب «هشام الاختيار»، أجرى معي هذا الأخير تحقيقاً لم يستمر سوى أقل من دقيقة. وكان حاضراً آنذاك كل من اللواء «علي دوبا» رئيس شعبة المخابرات وأعضاء «اللجنة الأمنية العليا»، بالإضافة إلى العقيد «مدحت شبانة» ، مدير مكتب رئيس مكتب الأمن القومي «عبد الرؤوف الكسم». وكان الاحتشاد المفاجىء والاستثنائي لهؤلاء جميعاً في مكتب «الاختيار» بسبب الصورة «الخرافية» التي تكونت لديهم عني خلال فترة ملاحقتي. فقد كانوا يعتقدون أنهم يطاردون «سوبرماناً خارقاً»، خصوصاً وأن الأجهزة الأمنية الأربعة فشلت في الوصول إليّ طوال شهر ونصف من المطاردة في عدد من المحافظات بعد اعتقال جميع زملائي(محمد حبيب، عفيف مزهر، ...إلخ) اعتباراً من 17 نوفمبر 1991، رغم أنهم أخذوا طفلتي الرضيعة «سارة» ( ذات الأحد عشر شهراً) مع أمها - بناء على طلب العميد «مصطفى التاجر» رئيس «فرع فلسطين/235» وموافقة «علي دوبا» - كرهينتين لإرغامي على تسليم نفسي (الوثيقة جانباً)! وعند اعتقالي، فوجئوا بشاب لم يبلغ الثلاثين من عمره، ولا يزيد وزنه عن 58 كيلو إلا قليلا!
كان السؤال الأول والوحيد الذي وجهه لي «الاختيار» فور أن أجلسني نائبه العقيد «يحي زيدان» على كرسي في المكتب: «بقديش عم تشغّل مرتك يا ابن الشرموطة حتى تموّل المنظمة»؟
تعلمت أمراً واحداً في الحياة: من يضرب الضربة الأولى سيكون هو المنتصر وهو من يحدد قواعد اللعبة، حتى لو تسبب له الأمر بالموت. وإذا كنتَ تعرف أن الموت ينتظرك في جميع الأحوال، لا يكون أمامك سوى تَمثُّل القول المنسوب لـ «المكزون السنجاري» (القرن13م) :
« فإنْ هبتَ أمراً لا غِنىً عن لقائِه ... فلِجْهُ بقلبٍ دونهُ يُصدعُ الصخرُ » .
ففي الحياة لا يوجد شجاع ولا جبان، بل محاكمة عقلية تفصل ما بين الشجاعة المطلقة والجبن المطلق في أقل من طرفة عين. ولأني كنت أعرف جيداً المصير الذي كان ينتظرني، أجبته ذلك الجواب الذي بقي حديث عليّة القوم السلطوي منذ ذلك الحين حتى سقوط النظام، بسبب المصادفة العجيبة التي جاءت إجابتي في سياقها. فقد أجبته حرفياً : «لازم تسأل أم عمّار( زوجته). لأني باخد على مرتي نفس المبلغ يلي باخده على مرتك»! وهذه هي المرة الأولى في حياتي التي أذكر فيها القصة علناً، رغم أن الكثيرين طالبوني بروايتها لعامة الناس، ورغم أن شعبة المخابرات كلها، فضلاً عن أوساط قيادية أخرى في السلطة، وصولاً إلى «حافظ الأسد»، سمعتْ بها. فليس من عادتي أن أشخصن الأمور في العمل العام، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمسألة عائلية. ويعرف الجميع أني دافعت بشراسة عن السيدة «نجاة مرقبي خدام» (زوجة عبد الحليم) حين بدأ إعلام السلطة يروّج عنها - بعد «انشقاقه» أواخر العام 2005 - قصصاً شخصية حقيرة ، رغم أني كنت أخوض معه معركة علنية على خلفية قضية «النفايات الكيميائية السامة». كما أني نعوت «الاختيار» حين تفجير مكتب الأمن القومي في العام 2012، واعتبرته «شهيداً»، لمجرد أن من وقف وراء التفجير لم يكن سوى الجاسوس «علي مملوك» وشريكه «ماهر الأسد». وهذا ما فاجأ الناس الذين يعرفون أن «الاختيار» هو نفسه من تسبب لي بالشلل الجزئي، إلى حد أن الأستاذة الجامعية اللبنانية - الأردنية المعروفة، الدكتورة «حياة الحويك عطية»، القومية السورية وصديقة النظام، كتبت مقالاً في «الدستور» الأردنية عبّرت فيه عن ذهولها بقدرتي على فصل الخاص عن العام وعدم العمل بمنطق الثأر، واعتبرتْ أن هذا ما يفصل «المعارض الحقيقي» عن «المعارض القذر». وهذا ما كتبته لي في رسالة «SMS» أيضاًَ لا زلت أحتفظ بها حتى اليوم!
ما إن نطقتُ بجوابي حتى فقد عقله كلياً وانتابته حالة هستيرية غريبة، وتحول إلى وحش منفلت، وانهال عليّ رفساً وركلاً بحذائيه كليهما ولكماً بقبضتيه الإثنتين (وكان لاعب جيدو وكاراتيه، كما هو معلوم)، قبل أن يضغط على جرس ويصيح بأعلى صوته لعناصره المنتشرين في الصالون أمام المكتب :«خدوه ع الكرسي [الألماني] وموتوه»! ومجرد أن وضعوني عليها ، ومع أول «قرصة»، خرج من صدري صوت ربما سمعه سكان «حي البرامكة» جميعاً، قبل أن أفقد وعيي وأدخل في غيبوبة لم أستفق منها إلا عند حوالي الثانية بعد منتصف الليل في «مشفى تشرين العسكري»عاجزاً عن الحركة. وحين استيقظت كانت أمامي العميد الطبيب «ليلى كزكز»، طبيبة المفاصل والروماتزم الأكثر شهرة في سوريا ( لم يجدوا طبيباً مناوباً في قسم العصبية ، فأحضروها هي!!). وما بين غفلة وإفاقة كنت ألمح أحد ضباط «فرع المنطقة» الذين جاؤوا لإعادتي إلى الفرع لاستكمال التحقيق وهو يحرق قدميّ بسيكارته ليتأكد من قول الطبيبة بأني فقدت الإحساس بالطرفين السفليين، ويقول لها «بدك تخليه يمشي هلق»، وهي ترد «غير الله نفسه ما بخليه يمشي. كل مرة بتعملوا عملتكم نفسها وبدكم تخلونا نرقّع وراكم»! وسيقول لي توأم الروح الدكتور «عبد العزيز الخيّر» لاحقاً في سجن «صيدنايا» إني كنت محظوظاً جداً لأني دخلت في غيبوبة منذ اللحظات الأولى لوضعي على «الكرسي»، وكنت محظوظاً أكثر لأن هذه السيدة الحموية الشجاعة هي من كانت الطبيب المناوب!!
بعد بضعة أيام ، حين أعادوني من مشفى تشرين العسكري إلى زنزانة انفرادية في الفرع، سيخبرني أحد السجانين هامساً بأن سبب جنون «المعلّم» (الاختيار) وحالة الهستيريا التي انتابته ومنعته حتى من التصرف بلباقة وانضباط عسكري أمام رئيسه «علي دوبا»، لم يكن لأني شتمته بمثل ما شتمني ، ولكن «لأن زوجته كانت هربت منذ أيام قليلة وحسب مع سائقه، قبل أن يعتقلوا هذا الأخير الموجود في زنزانة مجاورة لزنزانتك»(وكان يشير إلى بابها المقابل لزنزانتي بيده وهو يلقي أمامي باليد الأخرى عنقوداً صغيراً من الموز المهرّب وعلبة دخان مارلبورو، مكافأة لي على انتقامي له ولرفاقه» كما قال! وكانت المرة الأولى التي أسمع بالقصة، بخلاف ما ظنه «الاختيار» حين أجبته على شتيمته. وهكذا كانت إجابتي محض مصادفة جاءت كما رميةٍ دون رامٍ أو «حفر وتنزيل» كما يقول صنّاع الموزاييك في دمشق!(2).
حين نُقلتُ إلى «الفرع 248» بعد بضعة أيام، كانت القصة تسري همساً بين ضباط وعناصر الفرع، بمن فيهم مدير سجن الفرع العقيد «عمر شرق» ( الحلبي المُنحدِر من إدلب). ومنذ ذلك الحين بدأت بيننا «صداقة سرية» استمرت إلى ما بعد إطلاق سراحي في العام 2001، بل حتى إلى«اختفائه» في ظروف غامضة قبل أكثر من عشر سنوات. لكن المنعطف الأساسي في هذه العلاقة كان حين أعادوني من سجن تدمر أواخر أيار/ مايو 1993 بعد إضراب عن الطعام استغرق 37 يوماً. ولأني كنت أصبحت مقعداً ومهشماً بسبب ما تعرضت له هناك على يدي مدير السجن «العميد غازي الجهني» و مساعد انضباطه «محمد علي ناعمة» ( كسر في الفك الأيسر السفلي وخلع في المفصل الفكي الأيسر وكسر سطحي في عظم الجمجمة القذالي بسبب الضرب بماسورة حديدية)، كان يقتضي الأمر أن أحظى بعناية خاصة. لكن الأكثر إثارة في الأمر هو أن العقيد «عمر»، وفور وصولي إلى «الفرع 248»، وضعني في المنفردة 54 في «الجناح الشرقي»(على بعد بضعة أمتار فقط من زنزانة «رياض الترك» الذي كان في المنفردة 52) بعد أن همس في إذني «إياك أن تأكل أو تشرب من أي شيء يقدمونه لك إذا لم أكن أنا موجوداً وتحت إشرافي مباشرة. كمال [ يقصد رئيس الفرع العميد «كمال يوسف» ، وثيق الصلة طائفياً بالقوات اللبنانية و «سمير جعجع» آنذاك، من خلال زوجته التي كان يرسلها في مهمات إلى بيروت الشرقية] حاطط حطاك ومقرر يخلّص عليك بسبب قصة تهريب اليهود» (3)! وهكذا، وطوال الـ 42 يوماً التي قضيتها في الفرع (حتى نقلي إلى «سجن المزة» بتاريخ يوم السبت 7 آب / أغسطس 1993) كان يحضر لي بنفسه - سراً بالطبع- طعاماً خاصاً من «نادي الضباط»، وربما من البيت، حين يأتي إلى مناوبته المسائية، بعد أن أعطى أمراً لعناصره : «ممنوع على الجميع منعاً باتاً تحت طائلة العقوبة الاقتراب من المنفردة 54، باستثناء الرقيب كمال الذي سيكون مسؤولاً وحده عن كل ما يتعلق بنزيل المنفردة،بما في ذلك إخراجه إلى الحمّام».وهذا الأخير، الرقيب «كمال»،كان من «جبل العرب» وطالباً في كلية الحقوق يؤدي خدمة العلم. وقد نبهني يومها العقيد «عمر» إلى وجوب التجنب التام لأي حديث مع أي سجان وعدم الثقة بأي أحد منهم، وبأي شكل من الأشكال، باستثناء الرقيب «كمال» حصراً!
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فكثيراً ما كان خلال خدمته المسائية ومناوباته الأسبوعية يخرجني إلى مكتبه ، وهو في السجن نفسه تحت الأرض بالطبع ، لمجرد أن أحدثه عن «النبي محمد» وحقيقة أنه كان نصرانياً قبل أن يصبح يهودياً. وكان يشير بذلك إلى مضمون كتابي الأول الذي صادرته شعبة المخابرات صيف العام 1989 بطلب من وزير الأوقاف «عبد المجيد طرابلسي» قبل توزيعه، وكان بعنوان «الإسلام التلمودي والإسلام الطالبي ـ مقدمات في البحث عن الجذور التناخية للقرآن والإسلام المحمدي وافتراقه عن إسلام أبي طالب الحنيفي النصراني»، الذي قدّم له أستاذنا المؤرخ الفذ «هادي العلوي». وأذكر أنه قال لي يوماً حين حدثته عن الحاخامات اليهود الذين درّسوا النبي محمد وعلموه الصلاة إلى القبلة اليهودية في إيلياء (القدس لاحقاً) ، «كان عندي إحساس أننا نعيش كذبة كبرى عمرها 14 قرناً، وكنت أتساءل دائما عن السر في أن ثلاثة أرباع القرآن تكرار، ولكن بلغة عربية بليغة، لقصص التوراة والتلمود. ولكني لم أتجرأ نفسياً على أن أفكر بالحقيقة حتى بيني وبين نفسي»!
غادرت «فرع التحقيق» إلى سجن المزة نهار يوم السبت ، 7 آب/ أغسطس 1993 ، وكان هو أول من أخبرني بأن «اللواء علي [دوبا] لم يوافق على إعادتك إلى عند زملائك في سجن صيدنايا كما طلبت، بسبب ما حصل بينك وبين مديره الجحش محيي الدين محمد، وقرر أن ينقلك إلى سجن المزة. وأظن أنك سترتاح عند مديره العقيد بركات العش لحتى ألله يفرجها عليك. وقد أصرّ على موقفه [يقصد: علي دوبا] بأن يبقيك في العزل الانفرادي حتى نهاية فترة سجنك»! وكان مصيباً في توقعه. لكن قصتي مع العقيد النبيل«بركات العش»، الذي بقيت عنده حتى إغلاق سجن المزة بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 2000،والذي كان يحب أن يعرف بنفسه على أنه تلميذ المفكّر «الياس مرقص» في ثانوية جول جمال في اللاذقية ، قصة أخرى ليس هنا مكانها.
بعد بضعة أشهر كان لقائي الأخير مع «عمر شرق»، الذي كان أصبح برتبة عميد ونائباً لرئيس «الفرع 248». ففي 6 أيار / مايو 2001، وخلال استقبال «بشار الأسد» لـ«البابا يوحنا بولس الثاني»، الذي كان يحمل رسالة من مثقفين وصحفيين شيوعيين واشتراكيين فرنسيين (جورج لابيكا Georges Labica، إيتيان باليبار Etienne Balibar، نويل جوسبان- شاتليه Noëlle Jospin-Châtelet ... ) ومنظمات دولية تطالبه بإطلاق سراحي بسبب تدهور وضعي الصحي، حضرت دورية مساءً من «الفرع 248»، ولكن بعد أن طلبت شعبة المخابرات من مدير السجن «محيي الدين محمد» أن يغيب عن عملية التسليم والاستلام،ويكلف نائبه الرائد «لؤي يوسف» بذلك، لأن الشعبة كانت تخشى حصول «معركة دموية» بيني وبينه في ربع الساعة الأخير من اعتقالي. فقد كنت تعهدت أمام «علي دوبا» ( يوم عودتي من تدمر) بأني «سأقتل محي الدين بيدي حتى لو كان جالساً في حضنك أو حضن حافظ الأسد»! وكان هذا مجرد تهديد غاضب، فأنا لا أتجرأ على قتل حتى ذبابة، حتى أن زوجتي هي من يتولى قتل الحشرات المنزلية دائماً! ولهذا، يوم إعادتي إلى سجن صيدنايا بعد إغلاق سجن المزة، أعطته شعبة المخابرات أمراً واضحاً وقاطعاً ، حين تذرع بأن ليس لديه مكان انفرادي لاستقبالي، « أفرِغ جناحاً كاملاً من السجناء، وضعه في جناح وحده لنضمن عزله المشدد، وإياك أن تتعاطى معه أو أن تقترب منه»! فقد كانوا يخشون فعلاً من أني سأتعرض له فور احتكاكي به (كما فعلت معه قبل نقلي إلى سجن تدمر في 6 شباط/ فبراير 1993 حين أراد ضربي بقضيب خيزران فغافلته وسحبته من يده وضربته به أمام عناصره في مكتبه)، ويمكن أن يؤدي الأمر إلى أن أحدنا يقتل الآخر، رغم أنه ابن قريتي تقريباً ( هو من قرية «درمينة» المجاورة لقريتنا). وكان النظام يخشى فعلياً على حياتي ومن أي مشكلة تحصل لي، خصوصاً بعد وراثة الجاسوس «بشار الأسد» لأبيه، وبعد أن أصبحت قضيتي مدار اهتمام الإعلامي العالمي على مدار الساعة وطوال أشهر متواصلة بعد تدهور وضعي الصحي. وهكذا أفرغ الجناح «أ/ يسار» في الطابق الثالث بأكمله (عشرة مهاجع!) و وضعني في المهجع الأخير منه، البعيد عن باب الجناح، لكي يضمن عزلي المشدد تماماً. وطوال وجودي في «صيدنايا» ( 13 سبتمبر 2000 – 6 مايو 2001) لم أرَ أحداً سوى توأم الروح الدكتور«عبد العزيز الخير»، الذي كان وحده مسموحاً له بزيارتي، باعتباره طبيب السجن. لكنه نجح ذات مرة مع رفاقه في أخذي سراً - «بالتواطؤ» مع مساعد الانضباط «حكمت عجيب» - إلى جناحهم في الطابق الأرضي (جناح حزب العمل الشيوعي) حيث قضيت معهم أسبوعاً كاملاً دون معرفة «محيي الدين محمد» بالأمر. وكانت المرة الأولى التي أختلط بسجناء آخرين منذ قرابة تسع سنوات! فهناك التقيت للمرة الأولى بـ «أكرم البني» و شقيقه «وجيه» (اللذين كان شقيقهما المحامي «أنور»، إلى جانب صديق العمر وتوأم الروح الآخر «خليل معتوق»، من محاميّ قضيتنا/ «لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان» أمام محكمة أمن الدولة) و المهندس «نزار مرادني» و الروائي «مصطفى خليفة»، صاحب «القوقعة» لاحقاً، و«وجيه غانم» و «كامل عباس» و «عباس عباس» ....إلخ ( ربما أخطأت في بعض الأسماء ونسيت الكثير منها).
حين وصلت عند منتصف الليل تقريباً إلى «الفرع 248»، كان العميد «عمر» في استقبالي عند المدخل الداخلي. وقد تعمد ذلك لكي يهمس بأذني بضع كلمات : « أمر إطلاق سراحك صادر من مبارح ، لكن رئيس الشعبة ( كان أصبح اللواء «حسن خليل» بالتكليف) يماطل لينتزع منك ولو أي شيء . ما تفكر بالأمر. اليوم بده يفرج عنك إجباري عن رقبته. هيك أوامر مكتب الأمن القومي»! وهذا ما حصل فعلاً. فبعد أقل من نصف ساعة على وجودي في الفرع والقيام ببعض الترتيبات الإدارية أحضروا شقيقيّ «ممدوح» و «حيان» لاستلامي باعتباري «عاجزاً»، وحملتنا سيارة خاصة بشعبة المخابرات حتى منزل أهلي في ريف جبلة ، الذي وصلناه عند الثانية والنصف صباحاً، لكن بعد الاتفاق مع العميد «عمر» على طريقة للتواصل لاحقاً.
وصلت إلى فرنسا للعلاج في 15 تموز/ يوليو 2001، بعد أن كان رئيس الوزراء «ليونيل جوسبان» أعلن رسمياً ( تحت ضغط شقيقته « نويل جوسبان - شاتليه» و زملائها الذين قادوا الحملة لإطلاق سراحي) أنه «لن يستقبل، مع الرئيس جاك شيراك، الرئيس بشار الأسد خلال زيارته الرسمية لفرنسا ( 25 حزيران / يونيو) إلا إذا أعلن في مؤتمره الصحفي المقرر في بلدية باريس أنه رفع الإقامة الجبرية المنزلية عن نزار نيوف وسمح له بالسفر للعلاج». وهذا ما حصل، كما يوثق الأمر تقرير مصور للقناة الثانية الفرنسية. وبعد بضعة أشهر استأنفنا التواصل عبر بريد إلكتروني سري على Hotmail تعمّد - في مغزى واضح الدلالة - أن يكون اسمه فيه «عمر بن عبد العزيز Omar ibn Abdul Aziz»! وقد بقي هذا التواصل مستمراً حوالي عشر سنوات أرسل لي خلالها عشرات الوثائق ، فضلاً عن المعلومات الخاصة، قبل أن ينقطع التواصل فجأة. والآن، بعد حوالي 15 عاماً لا أعرف ما إذا كان لا يزال حياً،كما آمل، أم أنه توفي أو تعرض لمكروه بعد تحول الانتفاضة الشعبية إلى ثورة جواسيس إسرائيلية - وهابية منذ حزيران / يونيو 2011. وقد حاولت طوال هذه السنوات، بشتى السبل، التأكد من مصيره، لكني لم أستطع، رغم أن معلومات ضبابية متنافرة(غير مؤكدة) قالت إن كلاب الثورة الإسرائيلية - الوهابية قتلوه بينما كان في طريقه لزيارة عائلته في حلب أو إدلب!؟
المقدم «علي فاضل»:
كانت الطريقة التي تعرفت بها على المقدم «علي فاضل» مختلفة كلياً عن طريقة معرفتي بالعميد «عمر شرق». فذات يوم من صيف العام 2002، بينما كنت لا أزال أتنقل بين المشافي الفرنسية والألمانية،اتصلت بي الصديقة الكردية السورية (العفرينية)،العزيزة والغالية جداً«افتكار حسن»، زوجة الصديق الفرنسي الصحفي «جاك مينييه Jacques Munier» ، صاحب أشهر برنامج ثقافي في إذاعة فرنسا الثقافية الدولية (فرانس كولتور)، وقالت لي «يجب أن تأتي إلينا لأمر هام. لك عندنا رسالة وهدية خاصة من سوريا!!». وحين ذهبت، وجدت بانتظاري في منزلهم شقيقتها المدرّسة «سوسن»، قبل أن أتفاجأ بأنها زوجة مقدم في المخابرات العسكرية يدعى «علي سليم فاضل»، وهو من ناحية «عين البيضا» في ريف اللاذقية. وكان في ذلك الوقت موضوعاً بتصرف القائد العام. وهذا مصطلح إداري عسكري يعني أنه موقوف عن العمل مؤقتاً حتى يجري البت بوضعه،تسريحاً أو إعادته إلى عمله أو... سجناً! أما السبب فكان إقدامه على صفع رئيسه المباشرالعميد«علي يونس»على وجهه بحضور ضباط آخرين! وهذا الأخير أصبح لاحقاً نائب رئيس شعبة المخابرات العسكرية، كما هو معلوم.
عمل «علي فاضل» قبل ذلك، وهو ضابط فوضوي ومتهور جداً، رئيساً لقسم الدوريات والحواجز في «فرع الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية في لبنان»، ثم في مكتب «غازي كنعان» هناك. وحين عاد هذا الأخير من لبنان في العام 2001، عاد معه، ولكن إلى مقر شعبة المخابرات.
كان «علي فاضل»، باختصار شديد، يريد ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ «الانشقاق» والمجيء إلى فرنسا. ومن أجل أن يكسب ثقتي، أرسل لي بعض الوثائق (وبشكل خاص صورة عن جواز سفره المنشور جانباً،والذي يستخدمه كغطاء لمهماته الأمنية الخارجية،وبعض الوثائق الخاصة). وكان يكفي أنه وصل إليّ من خلال أخت زوجته لكي أثق به. لكني نصحته بأن يختار أي بلد سوى فرنسا، ولو كان في مجاهل أفريقيا، لأن الفرنسيين قذرون ولن يترددوا في بيعه في أي لحظة، كما فعلوا مع ضابط سوري مهندس مطلع الثمانينيات يدعى «بريدي البريدي»، وهو من منطقة القلمون السورية ( ربما من يبرود أو النبك أو جيرود، فلا أعرف). فقد كان موفداً لصالح «مركز البحوث العلمية» لتحصيل الدكتوراه في الهندسة، لكنه عمل مع جماعة «بعث العراق» في فرنسا، فقرر النظام إعادته. ويومها جرى استدراجه (على الأرجح من قبل الملحق العسكري المقدم «أمين شرابة») إلى مقر السفارة، حيث جرى تخديره و وضعه في تابوت قبل إخراجه من «مطار أورلي» في باريس بشهادة وفاة مزيفة وبمعرفة المخابرات الفرنسية وتعاونها. وفي سوريا قضى 15 عاماً في سجن تدمر وغيره من مراكز الاعتقال قبل أن يطلق سراحه بعد أن فقد عقله كلياً، حيث شوهد في حالة مأسوية مزرية يدور حافياً في الشوارع ويضرب «الأرض الخائنة» بعصا يحملها دائماً «لكي يؤدبها»، كما نقل عنه من شاهدوه!
بدلاً من ذلك، اقترحت على «علي فاضل» أن يكون «شاهداً / راوياً» في أفلام وثائقية كنت أعمل على كتابتها، أحدها يتعلق بتهريب النفط السوري والعراقي من قبل العميل الأميركي العتيق «صدام حسين» وأولاده وشركائهم في المخابرات العسكرية السورية إلى مصفاة حيفا الإسرائيلية منذ العام 1997 عبر ميناء بانياس النفطي، والثاني حول قصة تهريب اليهود السوريين المشار إليها في الهامش 3 أدناه، و الثالث (الذي بدأت العمل عليه في العام 2003) عن تجنيد الإرهابيين الإسلاميين السوريين من قبل المخابرات السورية وإرسالهم للقتال في العراق. وكنت يومها أناقش ذلك مع صحفيين صديقين مخرجين للأفلام الوثائقية هما البريطاني «غوين روبرتس Gwynne Roberts » الذي كان أول من أخرج فيلماً وثائقياً عن «مجزرة حلبجة» الكيميائية في العراق ثم «مجازر سيراليون» في غرب أفريقيا، والأميركي «كريستوفر آيشام Christopher Isham» ، رئيس قسم التحقيقات في قناة ABC الأميركية.
ولأني رفضت إحضار «علي فاضل» إلى فرنسا، اقترح «غوين» و «كريستوفر» أن نؤمن إخراج «علي» وأسرته إلى بلد أوربي آخر عبر ما يسمى بـ «برنامج حماية الشهودWitness Protection Program»، وهو برنامج موجود لدى معظم القنوات التلفزيونية الكبرى لحماية من يساهمون في برامجها الوثائقية إذا كانت حياتهم معرضة للخطر في بلدهم الأصلي.
استمر العمل والتواصل مع «علي» على هذا الأساس حتى سبتمبر 2004 (قرابة عامين). وحين انتهت الترتيبات وتقرر خروجه بالطريقة التي وضعناها، زارني «غوين روبرتس» و «كريستوفر آيشام» في باريس والتقينا في إحدى المقاهي. وكانت هذه غلطة قاتلة لثلاثة كانوا نجوماً في الإعلام العالمي آنذاك وتحت الأضواء، فضلاً عن أن ثلاثتنا نعمل في مجال التحقيقات الصحفية. وكان من الطبيعي أن نكون تحت رقابة أكثر من جهة استخبارية ، على الأقل لكي يعرفوا الموضوع الذي نعمل عليه. وهذا ما حصل فعلاً، وما سنعرفه لاحقاً، ولكن بعد أن وقعت الفاس في الراس!
في ذلك الوقت بالضبط، وتحديداً في 29 آب / أغسطس 2004، أعلن «الجيش الإسلامي» في العراق عن اختطاف اثنين من أشهر الصحفيين الفرنسيين( كريستيان شينو Christian Chesnot و جورج مالبرونو Georges Malbrunot) وثيقي الصلة كليهما بالمخابرات الفرنسية. وما يؤكد تورط المخابرات السورية في الأمر هو أن «مالبرونو» أكد لي لاحقاً، من خلال صديقتنا المشتركة ، الصحفية «لارا مارلو Lara Marlowe» زوجة الصحفي الشهير «روبرت فيسك» ، أن الخاطفين اقتادوهما بعد اختطافهما إلى السفارة السورية في «شارع الأميرات» في بغداد!
اكتشفنا لاحقاً، وحصلنا على وثائق فرنسية وسورية رسمية تثبت ذلك، أن المخابرات الفرنسية كانت تراقب اتصالاتنا نحن الصحفيين الثلاثة (غوين، كريستوفر، وأنا) منذ بدأت في العام 2002. وحين أدركتْ مطلع أيلول / سبتمبر 2004 أننا على وشك إخراج ضابط في المخابرات السورية من سوريا ليكون «شاهداً / راوياً» في برامج وثائقية نعمل عليها، قررتْ أن تستثمر هذه المعرفة وتضرب ضربتها من خلال تقديم عرض/ صفقة للنظام :«نخبركم عن اسم ضابط مخابرات سوري على وشك الهرب مع وثائق حساسة، مقابل المساعدة على إطلاق سراح صحفيينا المختطفين في العراق»!
كان الاتصال الفرنسي عبر السفيرة السورية «صبا ناصر»، التي سارعت إلى إبلاغ دمشق بالأمر . ويشير الكتاب العاجل الذي أرسلته إلى وزير الخارجية «فاروق الشرع» بتاريخ 6 سبتمبر 2004 ( منشور جانباً، وأنا مدين بالحصول عليه إلى الوزير «وليد المعلم») أنها استقبلت صباح ذلك اليوم السيد «دومينيك» بحضور المقدم المهندس «محمد العبد الله» الذي كان يومها (على الأرجح) هو ضابط أمن السفارة أو الملحق العسكري أو يجمع بين المنصبين معاً، فلا أعرف وظيفته بالضبط(4). ويبدو أن «دومينيك» المشار إليه كان ضابط مخابرات فرنسياً في السلك الديبلوماسي ومعروفاً من قبل دمشق كما يوحي كتاب السفيرة. ومن الواضح أنه نقل عرضاً من قبل وزير الخارجية الفرنسي «ميشيل بارنييه» يتضمن «تقديم معلومات إلى السلطات السورية من شأنها إحباط تهريب الضابط السوري (علي الفاضل) من قبل الصحفي واللاجىء السياسي نزار نيوف، مقابل أن تساعد الحكومة السورية على إطلاق سراح الصحفيين الفرنسيين المختطفين في العراق». ويشير الكتاب أيضاً إلى أن «دومينيك» أبلغ السفيرة بأن الجهات الأمنية الفرنسية متأكدة من أن خاطفي الصحفيين الفرنسيين على صلة بالمخابرات السورية ، وأن سائقهما السوري الأصل«محمد الجندي» على صلة بأجهزة الأمن السورية التي تدعم الجماعات المسلحة في العراق ومتواطىء مع الخاطفين ...إلخ.
في أي حال، من الواضح أن الصفقة أبرمت بعد أسابيع قليلة. ففي مطلع أكتوبر أعلن ممثلو القوى السياسية «السنية» في العراق (أي فلول نظام «صدام حسين» الذين كانوا مدعومين سياسياً وعسكرياً من قبل النظام السوري) أن الصحفيين الفرنسيين نُقلا إلى مكان آمن، وأن إطلاق سراحهما أصبح مسألة وقت، كما نقلت عنهم قناة «الجزيرة»، الناطق شبه الرسمي آنذاك باسم جميع المنظمات الإرهابية العراقية، بما فيها فرع «القاعدة» الذي كان يقوده «أبو مصعب الزرقاوي» وأحد مساعديه،اعتباراً من العام 2005، الإرهابي «أمجد مظفر حسين» (أبو محمد الجولاني لاحقاً)، الذي كان تدرب في «الفوج 101» التابع للحرس الجمهوري السوري في «جديدة شيباني» قبل إرساله إلى العراق مع العشرات غيره ( راجع هنا الوثيقة الرسمية السورية المتعلقة به وبهم). لكن الدليل الأبرز على إبرام الصفقة الفرنسية- السورية هو أن دورية تابعة للحرس الجمهوري ( وليس لجهة أمنية مثل المخابرات العسكرية، كما يُفترض في مثل هكذا أحوال!) هي من داهمت منزل المقدم «علي فاضل» في «ضاحية الأسد» على مدخل دمشق الشمالي بعد منتصف ليل 27 / 28 سبتمبر واعتقلته قبل أقل من ساعة على مغادرته مع سائق تكسي يعمل على أحد الخطوط الخارجية كنا كلفناه بالأمر ودفعنا له مقدماً. وبعد أن ضجت وسائل الإعلام بذلك، خرج المحامي القذر «هيثم المالح»( بتكليف من صديقه اللواء «هشام الاختيار»، فقد كان أحد مخبريه) لينفي خبر الاعتقال، قبل أن تؤكده زوجته «سوسن» لموقع «شام برس» الذي كان يديره «علي جمالو» مراسل «الجزيرة» آنذاك في دمشق وأحد زبانية «أسماء الأخرس» و«الفرع 251» (الفرع الداخلي) في المخابرات العامة كما هو معلوم. وبتاريخ 3 أكتوبر، أكد مراسل «الوطن» العمانية في دمشق «وحيد تاجا» خبر الاعتقال وسببه ( تقرير «وحيد تاجا» منشور جانباً). وبعد أربعة أشهر(5 فبراير 2005)، وكان الصحفيان الفرنسيان أصبحا حرين منذ أكثر من شهرين، توفي«علي فاضل»في مشفى تشرين العسكري. وقد أكد لي الوزير «المعلم» لاحقاً في رسالة بالبريد الإلكتروني أن«المقدم علي فاضل قتل طبياً في شعبة أمراض القلب في مشفى تشرين العسكري» بعد أن استمر مدة عامين تقريباً وهو يرسل لي الوثائق التي طلبتها من أرشيف شعبة المخابرات العسكرية، وبعد أن ربطني بضباط آخرين استمروا في مساعدتي بعد تصفيته غدراً.
اكتشفت لاحقاً أنا و «غوين روبرتس» و «كريستوفر آيشام»، في سياق تحقيقنا في ملابسات وقوع «علي فاضل» في المصيدة، أن زوجته «سوسن حسن» لعبت دوراً كبيراً في ذلك، دون قصد على الأرجح. فخلال وجودها في باريس اغتنمت الفرصة لزيارة «إذاعة مونت كارلو العربية»، كما لو أنها مَعْلم سياحي! وهناك التقت بصحفيين سوريين وغير سوريين أمثال المذيع السوري الشهير«أ. خ.» وثرثرت أمامهم عن لقائها بي وعن إمكانية «انشقاق» زوجها...إلخ. كما أنها استخدمت رقم موبايلي الفرنسي للاتصال بي من دمشق بعد عودتها إلى سوريا، رغم أني حذرتها مراراً من استخدامه كونه مراقباً من قبل الفرنسيين، وأعطيتها رقماً آخر ليس معروفاً أنه لي للاتصال بي عند الضرورة، أو أن تترك لي ما تريده على رقم بيت أختها وصهرها! مع ذلك، هناك معلومات أخرى ( لم تتأكد لنا) تقول إنها هي من أبلغت النظام بقصة زوجها!؟ وقد ربط أحد مصادرنا بين اعتقال زوجها وبين تعيينها بعد فترة وجيزة على ذلك كمشرفة على برامج تعليمية في«القناة الفضائية التربوية» التابعة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، «بدعم من اللواء بهجت سليمان»!؟
نقطة آخيرة لا بد من الإشارة إليها، وهي أنني - حين بدأت أطلب وثائق ومعلومات معينة من «عمر شرق» و المغدور «علي فاضل» لخدمة عملي الصحفي - لم أهتم إلا بالوثائق التي تتعلق بملف اعتقالاتي الأربعة( 1979، 1981، 1988، 1991)، وملف قضيتنا ومحاكمتنا أمام محكمة أمن الدولة في العام 1992(قضية «لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا»)، وملفات تتعلق بقضايا مافيوزية وإجرامية سلطوية، وما يُشتم منها من أشكال الخيانة الوطنية التي تورط بها النظام مع جهات خارجية في إطار ما يسمى «التعاون الأمني». وقد تجنبت الحصول على أي وثيقة تتعلق بأمن الدولة والقوات المسلحة وما يتصل بهما، خشية أن تقع دون قصد في أيدي جهات معادية. فقد كنت أدرك دوماً ، وطوال حياتي العامة منذ أن وعيت سياسياً، أنه لا يجوز تحت أي طائل الخلط بين أمن السلطة / النظام وأمن الدولة ومؤساستها. ولهذا، ولأن جهاز كومبيوتري أصبح بمثابة «شرموطة» لم يبق جهاز مخابرات عرص إلا وحاول التسلل إليه،أصبحت أستخدم منذ سنوات طويلة - رغم ضيق ذات اليد - جهازَي كومبيوتر، أحدهما للعمل المفصول تماماً عن الإنترنت، مع «هارد ديسك خارجي» منفصل هو الآخر عن الشبكة وموضوع في مكان آمن، والثاني مخصص فقط للتواصل مع الشبكة وتصفح المواقع ..إلخ!
***
بينما رحل «علي فاضل» في عملية تصفية غادرة قبل نحو عشرين عاماً، لا يزال مصير العميد العزيز«عمر شرق» مجهولاً بالنسبة لي حتى الآن بعد سنوات طويلة من محاولاتي الفاشلة لمعرفة هذا المصير! ولطالما كنت أتمنى أن يبقى جميع من ساعدوني أحياءً إلى ما بعد زوال النظام، على الأقل لأتمكن من التعبير عن شكري وامتناني وعرفاني لهم علناً دون التسبب لهم بأي أذى، وليعرف الناس أنه في أقذر المزابل ومكبات القمامة المخابراتية وأكثرها عفونة يمكن العثور دائماً على ورود تشرئب بأعناقها وسط تلال القاذورات وروائحها الكريهة!
هكذا يمكن لـ«عمر» و «علي» أن يكونا في خندق واحد حين يكون على الجبهة المقابلة جيش «الفريق يزيد بن معاوية الأسدي»،بشرط أن يكون«عمر» من طينة«عمر بن عبد العزيز»،وأن يكون «علي» من طينة «علي بن أبي طالب» فعلاً، كما كان يقول لي الصديق الدمشقي والشيوعي العتيق، المحامي والكاتب الساخر «مصباح الغفري»!
ـ مشفى كرويدون الجامعي ، لندن /8-10 ديسمبر 2024
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أصبح «محمد ديب زيتون» رئيساً للشعبة السياسية في وزارة الداخلية في العام2009، ثم مديراً لإدارة المخابرات العامة في العامة في العام 2012، ثم رئيساً لمكتب الأمن الوطني (القومي سابقاً) في العام 2019. أما «الياس شحود»، شقيق زوجتي آنذاك، فقد كوفىء على تسليمي، كما فعل «يهوذا الاسخريوطي» في الأسطورة المسيحية المعروفة، بأن عُيّن عضواً في قيادة فرع دمشق لحزب البعث ولم يكن بلغ من العمر سوى 21 عاماً ( مواليد العام 1970) مع منزل فاخر في «مشروع دمّر» وصولاً إلى عضويته في «مجلس الشعب»!
(2) ـ حصلت لاحقاً، بفضل «علي فاضل» على تقرير من «علي دوبا» إلى رئيس «مكتب الأمن القومي» يتضمن شرحاً لما جرى بيني وبين «الاختيار» ، ويحمّل «الاختيار» مسؤولية ما جرى، مدعياً أنه أنّبه على شتيمته لزوجتي آنذاك. وكان تقريره بعد أن بدأت وسائل الإعلام العالمية والمنظمات الحقوقية تنشر أخباراً متضاربة وغير دقيقة عن مصيري ( بعضها قال إني مت تحت التعذيب ..إلخ). وأنا آسف جداً وأعتذر على ذكر هذه القضية للمرة الأولى علناً، رغم مرور قرابة 35 عاماً عليها، بسبب طابعها الشخصي الذي يمس سيدة لا تزال على قيد الحياة كما أعتقد، ولا علاقة لي أو لأي أحد آخر بحياتها الخاصة، وبزوجها السابق الذي اغتيل غدراً في تفجير مكتب الأمن القومي مع رفاقه من قبل الجاسوس «علي مملوك» وشريكه «ماهر الأسد». لكن هذا أصبح جزءاً من تاريخ وطن لم يعد موجوداً، ومن تاريخ شعب هو الآخر على طريق الانقراض السياسي أيضاً!
(3) ـ في سجن تدمر تعرضت لعملية تسميم فاشلة بمادة «الأكونايتم Aconitum Powder» المحشوة في كبسولات أنتيبيوتيك، على يد السجين الجنائي المحكوم بالإعدام مع وقف التنفيذ «خالد عبود باشا الشبلي»، شقيق المطربة الشعبية الرقّاوية - الحلبية التي اشتُهرت في السبعينيات والثمانينيات «يسرى البدوية»، على خلفية قتله ضابطاً من «سرايا الدفاع» تحرش بشقيقته في أحد الملاهي الليلية. وكان «خالد» مرافقاً خاصاً يومها للواء «ممدوح عبارة» مدير إدارة المركبات، إذا لم تخني ذاكرتي. وقد وضعوه معي في الزنزانة الانفردية بذريعة «مساعدتي لأني عاجز»، رغم أن أنظمة السجون العسكرية وتعليمات شعبة المخابرات تقضي بمنع وضع سجناء جنائيين / سجناء حق عام مع سجناء سياسيين في مكان واحد! وعلى أي حال، فقد أنقذني من موت محقق حارس ليلي في «الباحة الخامسة» (الجناح الخامس) كان يؤدي خدمة العلم يدعى «الياس» (من إحدى قرى ريف درعا) ، الذي كان شاهد بالمصادفة دورية من «الفرع 248» تأتي إلى السجن في النهار الفائت وتخرج «عبود الشبلي» من السجن لحوالي ساعة بموجب كتاب رسمي، قبل أن تعيده إليه بكتاب رسمي أيضاً! وصودف أن«الياس» كان يعرفني من خلال أهل زوجتي آنذاك في «حي القصاع» بدمشق،الذين كانوا جيران أسرته، ومن خلال ترددي على عيادة قريبته طبيبة الأسنان «سعاد ركني العيد» (شقيقة قائد الشرطة العسكرية العميد «رسمي ركني العيد») التي كانت في الحي نفسه. أما قصة «تهريب اليهود» فسآتي على ذكرها في وقت آخر مع وثائقها الرسمية التي تنشر للمرة الأولى . وهي - باختصار - تتعلق بكشفي لشبكة ضباط من المخابرات العسكرية (بينهم «كمال يوسف») والمخابرات العامة وإدارة الهجرة والجوازات، مع شركاء لبنانيين لهم،كانوا يقومون - على مدى عشرين عاماً- بتهريب المواطنين السوريين أبناء الطائفة اليهودية بالاشتراك مع ضابطة الموساد وأستاذة الموسيقى الكندية «جودي/ جوديت فيلد كارJudith Field Carr» مقابل 70 مليون دولار، هي الكلفة الإجمالية للعملية التي أُطلـِق عليها اسم «عملية موسى». وبسبب ذلك، منحها الرئيس الإسرائيلي «شمعون بيريز»في العام 2012وساماً من الدرجة الأولى في احتفال رسمي في الكنيست،وأطلق عليها لقب «أستير الثانية، منقذة الشعب اليهودي»!أما الفضل في كشفي عن الأمر، وفي التحقيق الذي قمت به ونشرته في العدد الرابع من «صوت الديمقراطية» (صادرته شعبة المخابرات عند اعتقالنا)، فيعود إلى صديقتي«سارة شالوح همداني»،الشيوعية الدمشقية الباسلة،المنحدرة من الطائفة اليهودية (كانت بحكم الزوجة، وإن كنا نعيش معاً دون زواج رسمي). ويومها وصلت بنا الجرأة المجنونة إلى حد القيام بمحاولة فاشلة لزرع أجهزة تنصت في منزل زعيم الطائفة،الحاخام«ابراهيم حمرا»، وزوجته«ستيللا همداني»، خالة «سارة» ومديرة مدرسة«موسى بن ميمون». وكانت «سارة» تستفيد، كونها غير مؤمنة، من واقع أن خالتها تستدعيها بعد الدخول في يوم السبت للقيام بأعمال تحظرها الشريعة اليهودية (مثل إشعال نار موقد الطبخ ومصابيح الكهرباء...إلخ)! وكانت «سارة»،التي ينادونها في البيت باسم «يائيل»، أول من أخبرني بعملية سرية تديرها الموساد بالاشتراك مع خالتها وزوج خالتها وضباط مخابرات لتهريب اليهود السوريين ومخطوطات دينية ذات قيمة استثنائية،و«سرقت» لي من منزل بيت خالتها دفتراً صغيراً (أشبه بدفتر الهواتف) يحتوي على أسماء الضباط والمدنيين السوريين واللبنانيين الذين كانوا يتعاونون معها ومع «جودي فيلد كار» في العملية، بالإضافة إلى صورة شخصية لـ «جودي» كانت خالتها تحتفظ بها في البيت. وقد نشرتُ الصورة مع التحقيق المشار إليه!وستكون هذه القضية، بوثائقها التي تنشر للمرة الأولى، بما في ذلك صورة عن التحقيق الذي نشرته في المجلة، والذي حصل عليه العميد «عمر»من أرشيف مصادرات شعبة المخابرات، محورَ أحد فصول هذه المذكرات العشوائية.
(4) ـ أقدمت كلبة المخابرات البريطانية «أسماء الأخرس» على إعادة المقدم «محمد العبد الله» لاحقاً إلى دمشق قبل إنهائه فترةَ إيفاده، ليوضع تحت تصرف القائد العام، كونه كان محسوباً على «آصف شوكت» وزوجته «بشرى الأسد»، كما قيل لي. وبعد فترة رُفع إلى رتبة عقيد وعُين رئيساً لفرع الأمن السياسي في حمص،وهو - بالمناسبة- من منطقة صافيتا في طرطوس. وبتاريخ 18 مايو 2011 استُدرج من قبل مجموعة مسلحة قالت إنها لن تسلم نفسها إلا له شخصياً، لأنها تثق به. وحين حضر إلى المكان في منطقة«تلكلخ» غربي حمص،انبطحت المجموعة أرضاً ليخرج مسلحون آخرون من خلفها ويطلقوا عليه النار ويقتلوه، وفق الرواية التي تناولتها وسائل الإعلام يومها!
No comments:
Post a Comment
Note: only a member of this blog may post a comment.