في ذكرى التفجير الإرهابي الذي كان كشفي لخلفياته أحد أسباب «هربي» من فرنسا
كيف ولماذا نفذت المخابرات الفرنسية «مجزرة الأزبكية» في دمشق في 29 نوفمبر 1981!؟
وما خلفية ومضمون «اتفاق جنتلمان» الموقع بين «رفعت الأسد» والفرنسيين بعد التفجير!؟
(وثائق
تنشر للمرة الأولى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر «نزار» هذا التقرير للمرة الأولى في العام 2005، كما يبدو من الرابط في الهامش الأول أدناه. لكنه لم يرفقه بالوثائق الألمانية التي كان حصل عليها للتو من «ماركوس فولف». واليوم يُنشر مع وثائقه للمرة الأولى.
من أجل تصفح الصور بالحجم الطبيعي، وروابط المصادر، يرجى النقر عليها.
(فيكتوريا)
ـــــــــــــــــ
عند حوالي منتصف نهار الأحد، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1981، دوى انفجار هائل في «حي الأزبكية» بدمشق، ترددت أصداؤه حتى في ضاحية «جديدة عرطوز» التي تبعد عن المنطقة حوالي 15 كم، كما سيخبرني أحد أبناء الضاحية المذكورة (المحامي بسام عبود) حين التقينا في «سجن صيدنايا» صيف العام 1992.
يوم حصل الانفجار كنت طالباً في السنة الأولى في «الجامعة الأميركية» في بيروت، ولم يكن ثمة وسائل إعلام وقنوات فضائية مثل أيامنا هذه؛ إلا أنه تسنى لي أن أرى بعض آثاره - نقلاً عن التلفزيون السوري - على شاشة التلفزيون اللبناني الرسمي (أو إحدى قنواته، فقد كان مُقسَّماً يومها بين أكثر من ميليشيا، كما معظم المؤسسات الرسمية، وكل ميليشيا منها تبث على قناة من قنواته وتحمل اللوغو نفسه:«تلفزيون لبنان»!). وكان المشهد السريالي الأكثر إثارة للرعب، والذي لم يغادر ذاكرتي البصرية حتى اليوم،هو مشهد أشلاء سيارة تكسي (الشاسيه والدواليب!) عالقة - كما يمكن للمرء أن يخمّن بصرياً - على شرفة الطابق الرابع أو الخامس في أحد الأبنية المجاورة، وقد تدلت منها بقايا أشلاء وملابس سائقها أو أحد الضحايا من ركابه! فبسبب قوة عصف الانفجار، تطايرت أشلاء السيارات وباصات النقل الداخلي التي صودف مرورها في المنطقة، وتلك التي كانت متوقفة عند إشارة المرور، ومعها أشلاء ركابها،إلى أسطح وشرفات المباني المجاورة قبل أن تَعْلق وتستقر على «درابزوناتها» كما لو أنها ملابس منشورة على حبال غسيل!أما جدران البنايات المجاورة فقد انهارت كلها وأصبحت «ع العضم»!
سيعلم الناس من الإعلام الرسمي أن سيارة «هوندا» تحمل 300 كغ من المتفجرات تركها سائقها مجهول الهوية عند تقاطع «شارع مرشد خاطر» مع «شارع بغداد» قبل أن يفرّ هارباً. لكن من المرجح إلى حد كبير،كما توحي آثار الإنفجار،أن وزن الشحنة المتفجرة كان أكبر من ذلك بكثير، وربما تجاوز نصف طن!؟
يومها، وبسبب إشارة المرور الحمراء التي منعت السائق من متابعة سيره إلى مكان الهدف المحدد له، فتح باب السيارة و ولّى هارباً بينما كان يطلق النار من مسدسه في الهواء لكي يبعد الناس من طريقه. وهذا ما أثار انتباه وشكوك أحد الحراس أو عناصر الأمن المتواجدين في المنطقة فسارع إلى إطلاق النار عليه من رشاشه وأرداه قتيلاً قبل لحظات من وقوع الانفجار. ومن الواضح أن شحنة المتفجرات كانت مربوطة بجهاز توقيت، وهذا ما دفع سائق السيارة إلى الترجل منها والهرب قبل انفجارها، حين أيقن أن توقفه عند إشارة المرور سيمنعه من الوصول إلى الهدف ورَكْنها عنده في الوقت المناسب. ولأنه لم يكن يحمل أي بطاقة تعريف، نشرت وسائل الإعلام الرسمية صورة جثته وناشدت الأهالي المساعدة في التعرف على شخصيته. وبعد يومين أو ثلاثة حُدِّدت هويته على أنه شاب في التاسعة عشرة من عمره يدعى ياسين محمد ساريج (مواليد دمشق/ فحامة/ 1962)، وكان يعمل بائع خضار بعد أن فشل في إكمال دراسته. وقد جنده الأخوان المسلمون وأرسلوه للتدرَُب في بلد مجاور( يومها تجنب حافظ الأسد تحديد هذا البلد في خطابه عن المجزرة وأحداث تلك الأيام، رغم أنه كان علم للتو من جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية أن البلد هو الأردن، كما سيظر معنا أدناه؛ لكنه عاد وذكر الأردن في أحد خطبه اللاحقة، إذا لم تخنّي ذاكرتي).
ليس واضحاً الهدف الذي حدده له مشغلوه؛ لكن وجود مبنى «شعبة التجنيد» في المنطقة، بالإضافة إلى مقر«آمرية القوى الجوية» القديم(الذي كان أصبح مبنى إدارة التوجيه السياسي في القوى الجوية والدفاع الجوي ومكاتب مجلة «المرصاد» الصادرة عنها آنذاك تحت إدارة العميد الطيار، بطل الجمهورية، أديب الجرف)، يسمح بالجزم بأن أحد المبنيين هو ما كان الهدف، بدليل أن قسماً كبيراً من الضحايا كانوا من الفتيان المراجعين لشعبة التجنيد كي يتسلموا دفاتر خدمة العلم ، ومن الشباب الذين حضروا لكي يتسلموا مهمات التحاقهم بالوحدات العسكرية التي تقرر فرزهم إليها. وبطبيعة الحال، كانوا جميعاً من المدنيين آنذاك.
خلفية:
في ذلك الحين كانت المواجهات الدموية على أشدها بين النظام وعصابة«الأخوان المسلمين» الإرهابية ، المدعومة والممولة من قبل المخابرات الأردنية والعراقية والتركية والإسرائيلية و «القوات اللبنانية/ الكتائب» ومصر ( إلى حين اغتيال السادات قبل التفجير بأقل من شهرين). ومن خلف هؤلاء جميعاً كانت تقف الولايات المتحدة وفرنسا و«الحلف الأطلسي»، كل منها لأسبابها الخاصة ، فضلاً عن السبب المشترك بينهم جميعاً وبين إسرائيل: إرغام النظام على توقيع «اتفاقية سلام» على غرار «كامب ديفيد»، ولكن بالشروط الإسرائيلية، وهو ما كان يرفضه حافظ الأسد، رغم أنه نفذ انقلابه السعودي – البريطاني – الأردني في العام 1970 لهذا الهدف وحده تقريباً (ابرام اتفاقية سلام مع إسرائيل، إنما وفق «القرار 242» الذي قضى باعتراف سوريا بإسرائيل مقابل انسحابها من الجولان المحتل. وهو ما كان يرفضه رفاقه «اليعاقبة» الأطهار: نور الدين الأتاسي، صلاح جديد، يوسف زعيّن ، ابراهيم ماخوس ...إلخ).
إلا أن الدور الأكبر يومها (وإلى حين قيام تركيا بإرسال مئات أو آلاف المسلحين لاحتلال حلب وحماة وإدلب بعد ذلك ببضعة أشهر/ مطلع العام 1982،أو في الفترة نفسها تقريباً- أواخر العام 1981) (1)، كان للمخابرات الأردنية والعراقية، اللتين وقفتا وراء جميع أو معظم التفجيرات والاغتيالات التي قام بها «الأخوان المسلمون» منذ أول عملية اغتيال ارتكبوها (اغتيال رئيس فرع أمن الدولة في حماة، المقدم «محمد غرة»، في شباط / فبراير 1976). وكان «أسد السنة»،أو بالأدق بغل السنة، صدام حسين،هو رأس الحربة الأول في تلك الجرائم، بما في ذلك اغتيال الخبراء السوفييت في سوريا، بطلب من وكالة المخابرات المركزية، الأمر الذي دفع الزعيم الوطني أكرم الحوراني إلى إنهاء لجوئه في بغداد ومغادرة العراق نهائياً إلى فرنسا، فقد كان يرفض التعرض لخبراء أصدقاء جاؤوا لمساعدة الجيش السوري( المذكرات،ج4، ص 3509). وقد أصبح معلوماً اليوم ، بفضل كمية الوثائق الغربية التي أفرج عنها بعد سقوط النظام العراقي، فضلاً عن وثائق «أوربا الشرقية» السابقة، أن «وكالة المخابرات المركزية» كانت نجحت - بالتعاون مع مخابرات عبد الناصر - في تجنيد صدّام منذ العام 1959، لاغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم.وفي العام 1978 نفذ عملية اغتيال القائد الفلسطيني الكبير،الدكتور وديع حداد، بسموم بيولوجية من إنتاج«معهد وايزمان»الإسرائيلي أرسلها له رئيس الموساد،يتسحاق هوفي، عن طريق مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي. وفي العام نفسه نفذ عملية اغتيال الرئيس الجزائري هواري بومدين بالطريقة نفسها، ولكن لصالح الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان،مقابل صفقة طائرات حربية وبرنامج سلاح كيميائي و مفاعل نووي(دمرته إسرائيل لاحقاً) ومشتريات ومشاريع مدنية هائلة قيمتها عشرات مليارات الدولارات. وفي العام التالي، 1979، أقدم على إطاحة الرئيس أحمد حسن البكر بعد أن وضع مسدساً في رأسه وأرغمه على كتابة بيان استقالته «لأسباب صحية»! وكان ذلك بعد أن أرسل له رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن «طعماً مسموماً» (= تقريراً كاذباً)،عن طريق الملك حسين، يزعم فيه أن «الموساد حصلت على معلومات مؤكدة تفيد بأن الأسد والبكر سيتخلصان منه بعد تنفيذ اتفاق الوحدة بين البلدين...إلخ». وكانت الغاية الإسرائيلية - الأردنية من وراء ذلك منع قيام اتحاد بين سوريا والعراق، وفق «ميثاق العمل القومي» الذي أبرمه البكر والأسد لمواجهة تداعيات «اتفاقية كامب ديفيد». وكان صدام يعارض - بدفع من مشغليه - أي تقارب أو اتحاد مع سوريا.(راجع تفاصيل القصة في الجزء الأول من كتاب «فيكتور إسرائيليان» هنــا أو هنــا). ويومها لم تتردد المخابرات العراقية في تمويل حتى رياض الترك،كما اعترفت جريدة حزبه في الخارج (المسار، العدد 4، أيار/ مايو2004)، وليس فقط «الأخوان المسلمين» والمجموعات المعارضة الأخرى (باستثناء «رابطة/ حزب العمل الشيوعي»، الذي كان التنظيم السياسي الوحيد في تاريخ سوريا، إلى جانب مجموعة « 23 شباط / البعث الديمقراطي»،الذي لم يقبض فلساً واحداً من جهات خارجية، باعتراف علي دوبا في مذكرته إلى مكتب الأمن القومي في العام 1981).
إلى جانب الحرب المعلنة يومها بين تلك الأطراف و النظام السوري، كانت هناك حرب خفية تدور رحاها بينهم من خلال الاغتيالات أيضاً، فضلاً عن السيارات المفخخة خارج سوريا كما في داخلها. فقبل «مجزرة الأزبكية» بحوالي ثلاثة أشهر ( 4 سبتمبر 1981) جرى اغتيال السفير الفرنسي في بيروت لويس دولامار من قبل ثلاثة مسلحين لبنانيين، أشير في حينها إلى أنهم تابعون للمخابرات السورية، وكانوا يحاولون اختطافه، وحين فشلوا في ذلك، أطلقوا عليه النار. وعندئذِ قررت فرنسا الرد على العملية بتفجير «الأزبكية»!
اكتشافي الفاعلين الحقيقيين:
بعد تلك الجريمة بحوالي عشرين عاماً، وفي شباط / فبراير 2002، حين كنت أتابع علاجي في المشافي الفرنسية و الألمانية بعد إطلاق سراحي، اتفقت مع مؤسس ومدير المخابرات الخارجية في ألمانيا الديمقراطية السابقة، ماركوس فولف، على تحرير مذكراته العربية (أي شهادته عن الأحداث السياسية والأمنية التي شارك فيها جهازه وحده أو بالتعاون مع المخابرات الخارجية السوفييتية، GRU ، في العالم العربي منذ العام 1952 وحتى نهاية معسكر «أوربا الشرقية» في العام 1990). وكان من جملة الوثائق والأوراق التي وضعها بتصرفي ، فضلاً عن شهادته الخطية التي أرسلها لي بتاريخ 15 أكتوبر 2005، ما يتعلق بـ «مجزرة الأزبكية». فقد كشف لي في الشهادة المنشورة جانباً أن الفرنسيين هم من وقف وراءها. وهذه ترجمة كاملة للرسالة:
برندن في : 15 / 10 / 2005
عزيزي نزار
شكرًا جزيلاً لك على رسالتك المؤرخة في 25 سبتمبر، وخاصةً على التفاصيل التي ذكرتها لي بشأن قضيتك المقلقة مع DST [المخابرات الداخلية الفرنسية]. آمل أن تكون أكثر حذراً في المستقبل، فهم أكثر خداعًا وغدرًا من العقارب!
ردًا على سؤالك بشأن التفجير الإرهابي الذي وقع
عام 1981 في حي الأزبكية بدمشق، وخلافًا لما اقتبستَه من تقرير وكالة أسوشيتد برس،
فإن «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»، التي تأسست في يوليو 1981 بأوامر رئيس
الأركان الإسرائيلي رافائيل إيتان الذي كان يديرها مباشرةً [كمنظمة واجهة
للأعمال التخريبية الإسرائيلية في لبنان]، لم تكن مسؤولة عن ذلك إطلاقًا. قد يكون
مفاجئاً لك أن تعرف أن رجال المديرية
العامة للأمن الخارجي الفرنسية [المخابرات الخارجية] هم من وقفوا وراء المذبحة بالتعاون والتنسيق
اللوجستي مع كل من جهازي المخابرات العراقية والأردنية.
علمتُ أنا نفسي بذلك من [ رئيس «لجنة أمن الدولة»KGB في الاتحاد السوفييتي آنذاك، يوري] أندروبوف عندما كنتُ في موسكو بعد بضعة أيام على وقوع المجزرة. ووفقًا لمعلومات KGB، تمكن أحد عملائها الفرنسيين، المهندس بيير بورديول Pierre Bourdiol، الذي اقتصرت مهمته التجسسية على الجوانب التكنولوجية [المتعلقة بمشروع «آريان» الفضائي الأوربي الذي بدأ في العام 1979]، من الحصول على هذه المعلومات بمحض المصادفة حول مسؤولية فرنسا خلال محادثة عابرة مع صديق له في مقر وزارة الخارجية الفرنسية. أخبره صديقه حرفيًا بأن "استخباراتنا لم تتأخر في الانتقام لاغتيال سفيرنا في بيروت"، في إشارة إلى لويس ديلامار الذي اغتيل قبل ثلاثة أشهر على ذلك. وبعد ذلك تأكدت HVA [المخابرات الخارجية في ألمانيا الديمقراطية] ،عبر أحد عملائها في باريس ولدى منظمة التحرير الفلسطينية، من أن الفرنسيين، الذين شاركوا مع الأمريكيين في برنامج سري لتسليح صدام حسين بالأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل، وحفّزوه على شن حربه على إيران، قد حصلوا على خدمات لوجستية من المخابرات العراقية، التي استخدمت بدورها المخابرات الأردنية التي جندت شابًا إسلاميًا متطرفًا لتنفيذ العملية.
لا أعلم إن كان زملاؤنا في KGB [المخابرات السوفيتية] قد أبلغوا دمشق بذلك أم لا، لكنني متأكد من أن [رئيس ألمانيا الديمقراطية إريش] هونيكر اتصل بالرئيس حافظ الأسد بشأن هذه القضية، وزود جهاز استخباراته العسكرية بمعلوماتنا ومعلومات المخابرات السوفييتية. والغريب أن السوريين رفضوا إثارة القضية أو اتهام الفرنسيين بالجريمة. لكن بعد فترة وجيزة، علمنا أن دمشق وباريس توصلتا إلى "اتفاق جنتلمان أمني رسمي"[ اتفاق شرف شفهي] قضى بتحييد الأراضي السورية والأوربية عن عمليات أجهزة الأمن السورية والفرنسية. وقد مثل الطرف السوري في إبرام الاتفاق رفعت الأسد، بينما مثل الطرف الفرنسي بيير ماريون [مدير المخابرات الخارجية الفرنسية خلال الفترة 2 أبريل 1982-10 نوفمبر 1982]. وهكذا عرفنا لماذا كانوا يتفاوضون بكواتم الصوت والسيارات المفخخة!
اعتنِ بصحتك وكن أكثر حذراً إزاءهم.
ميشا (2)
( انتهت الرسالة)
بعد بضعة أشهر عثر فولف في أرشيفه على وثيقة أخرى ذات صلة بالقضية، فأرسلها لي حين كنت في ضيافة «مؤسسة هنريش بول هاوس» في مدينة «كولن/ كولونيا». وهي صورة عن تقرير كان رفعه رئيس شعبة المخابرات العسكرية السورية، اللواء علي دوبا، إلى حافظ الأسد بتاريخ 10 ديسمبر 1981 يتعلق باستقباله الملحق العسكري لجمهورية ألمانيا الديمقراطية في سوريا والأردن ،المقدم هربرت مولرHerbert Müller، ومعه المترجم الخاص بالسفارة الألمانية. ويومها نقل له الملحق العسكري رسالة معلومات من رئيس المخابرات العسكرية في وزارة الدفاع الوطني في ألمانيا الديمقراطية، الفريق ثيو غريغوري Theo Gregori، حول «مجزرة الأزبكية». ونفهم من التقرير، الذي حصلت سفارة ألمانيا الديمقراطية على نسخة منه وأرسلتها إلى برلين، أن استقبال دوبا له جاء بعد اتصال من زعيم ألمانيا الديمقراطية، إيريش هونيكر، مع حافظ الأسد في اليوم السابق. ويتحدث تقرير دوبا عن أنه تلقى من الملحق العسكري الألماني /الشرقي المعلومات الرسمية التالية:
ـ لا علاقة لـ «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»، التي كانت يومها واجهة للأنشطة التخريبية الإسرائيلية في لبنان، بمجزرة «حي الأزبكية»، كما ادعت بعد وقوع المجزرة.
ـ حصلت «إدارة الاستطلاع» ( وهو الاسم الرسمي للمخابرات الخارجية HVAفي ألمانيا الديمقراطية) على معلومات و وثائق تؤكد أن المجزرة جرى التخطيط لها من قبل مدير المخابرات الخارجية الفرنسية بيير ماريون ، الذي اعتمد في تنفيذ جريمته على مدير المخابرات العراقية برزان ابراهيم الحسن، الأخ غير الشقيق للطاغية صدام حسين، ومسؤول الشؤون السورية في المخابرات الأردنية طارق علاء الدين طوبال [أصبح لاحقاً مدير المخابرات العامة الأردنية].
ـ كان دور أجهزة المخابرات العراقية والأردنية تأمين أحد الإرهابيين الإسلاميين السوريين، عن طريق المراقب العام لجماعة الأخوان المسلمين عدنان سعد الدين، المقيم آنذاك ما بين العراق والأردن، لكي ينفذ العملية.
ـ منفذ العملية تلقى تدريبه في معسكرات تدريب الأخوان المسلمين قرب مدينة «السلط» الأردنية التي يشرف عليها ضباط مخابرات عراقيون وأردنيون ومن المخابرات البريطانية. لكن معلومات استخبارات ألمانيا الشرقية تنفي معرفة البريطانيين مسبقاُ بالمجزرة أو أنه كان لهم علاقة بها.
ـ يزعم الفرنسيون أنهم قاموا بالعملية رداً على اغتيال سفيرهم في بيروت دولامار من قبل مجموعة لبنانية تعمل بإشراف المقدم محمد غانم ، رئيس فرع الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية في لبنان.
بعد «مجزرة الأزبكية»، وفيما يبدو أنه «رد سوري على الرد الفرنسي»، حصل تفجير سيارة مفخخة في «شارع ماربوف Rue Marbeuf» في باريس صباح 22 أبريل 1982 . ويبدو أنه كان يستهدف مكتب«مجلة الوطن العربي» التي كانت تصدرها المخابرات العراقية في فرنسا منذ العام 1977 من خلال عميلها اللبناني العتيق وليد أبو ظهر ( توفي في العام 2004). وعندها ألغت فرنسا زيارة وزير الخارجية السورية عبد الحليم خدام، التي كانت مقررة إلى باريس، وطردت اثنين من الديبلوماسيين السوريين، وهو ما ردت عليه دمشق بطرد ديبلوماسيين فرنسيين من دمشق، بالمقابل. وتتابعت الردود والردود المضادة في لبنان وفرنسا وأماكن أخرى. وعندها يبدو أن الطرفين قررا التوصل إلى «اتفاق جنتلمان» (اتفاق شرف شفهي) يقضي بالتوقف عن تبادل اللكمات الدموية، وإقصاء الأراضي الفرنسية والأوربية والسورية واللبنانية عن ميدان صراعهما. وهذا ما وصفه فولف بـ «اتفاق جنتلمان» بين رفعت الأسد الذي زار فرنسا سراً صيف العام 1982 لإبرام الاتفاق مع مدير المخابرات الخارجية الفرنسية بيير ماريون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(*) ـ نُشرت النسخة الأولى من هذا التقرير في العدد الأول مجلة «الحقيقةSyriaTruth» الإلكترونية التي بدأتُ إصدارَها في العام 2005، واستمرت في الصدور حتى مطلع العام 2015. لكن للأسف لم يعد الموقع موجوداً على الإنترنت. إلا أن موقع «إيلاف» الإخباري السعودي، ولحسن الحظ، احتفظ بملخص لمحتويات التقرير ونشره على هذا الرابط بتاريخ 19 أكتوبر 2005 ، غير أنه ارتكب خطأً مطبعياً في ذكر تاريخ المجزرة، حيث أشار إلى أنها في العام 1980، بينما هي حصلت في العام 1981. ويومها جرى استدعائي إلى مقر المخابرات الداخلية الفرنسية وطُلب مني سحب التقرير لأنه يتضمن «اتهاماً للدولة الفرنسية بممارسة إرهاب دولة»، وإلا فإنه سيجري إحالتي إلى القضاء وتجريدي من وضعي كلاجىء سياسي. إلا أني رفضت ذلك بشكل قطعي ، وطلبت منهم إحالتي إلى القضاء، لأني كنت أعرف طبيعة المستندات التي أملكها، والتي تدينهم، بفضل الوثائق التي وضعها ماركوس فولف بتصرفي. وكانوا يعرفون أني لا يمكن أن أوجه تهمة لأحد، فرداً أو مؤسسة، إلا إذا كان في جيبي مصدران أو وثيقتان على الأقل. فهذه أصول العمل الصحفي التي تعلمتها منذ حياتي المهنية المبكرة في الإعلام الفلسطيني في بيروت (وكالة أنباء «وفا» الفلسطينية الرسمية و مجلة «صامد الاقتصادي») منذ العام 1981. وقد شجعني على التصلب في موقفي أني كنت ربحت للتو الدعوى التي رفعها ضدي رفعت الأسد أمام القضاء الفرنسي على خلفية اتهامي له بالوقوف وراء مجزرة سجن تدمر. ولهذا بلع الفرنسيون ألسنتهم، لكنهم بدؤوا يعملون بطريقة أخرى. فقد أبلغني محاميّ وصديقي وليم بوردون بأن هناك جهات رسمية فرنسية (من المخابرات بالطبع) تعمل على تجنيد واستئجار إسلامي جزائري لقتلك في الشارع بتهمة «التحرش بزوجته المحجبة» وإخراج الأمر على أنه «دفاع عن الشرف من قبل مسلم متزمت»، لكي يضربوا عصفورين بحجر واحد: تشويه سمعتك وقتلك! والأفضل أن تغادر فرنسا بأقصى سرعة ممكنة، لأنهم لن يسمحوا لك بالاستمرار في ما تقوم به، مهما كلفهم الأمر. وهذا ما حصل. فقد غادرت فرنسا بعد منتصف الليل، ولم أعد إليها بعد ذلك نهائياً، إلى حد أن زوجتي هي التي جاءت يومها من دبي،حيث كانت تعمل في ذلك الحين، ونقلت أغراضنا الشخصية إلى لندن بمساعدة مشكورة من صديقنا وجارنا السوري آنذاك (فارس الشوفي). ولحسن الحظ كان لدي يومها تأشيرة فيزا بريطانية متعددة الاستخدام منذ زيارتي الأولى لبريطانيا في سبتمبر 2004 بدعوة من فرع اتحاد الكتاب العالمي International Pen في بريطانيا. وكانت الأمور وصلت يومها بيني وبينهم إلى ذروة الصدام، لاسيما بعد أن اكتشفوا أني «أحفر تحتهم» وأبحث عن وثائق ومعلومات تدين وزارة الدفاع الفرنسية ومختبراتها العلمية بالاشتراك في اختبار أسلحة كيميائية على آلاف المعتقلين السياسيين وسجناء الحق العام في ثلاثة أماكن في البادية السورية (خان أبو الشامات، الناصرية ، زوبع / القلمون) منذ العام 1985 حتى العام 2004 على الأقل، بالتعاون مع مصطفى طلاس ومستشاره للشؤون العلمية ومدير مركز البحوث لاحقاً ، الدكتور عمرو أرمنازي، و علي مملوك (رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية آنذاك)، واللواء علي ملاحفجي ، والدكتور عبد الله واثق شهيد وآخرين. ويومها لم يكن أمامي من خيار سوى الهرب، بناء على نصيحة الصديق المحامي. وكانوا داهموا منزلي في ضاحية «مالاكوف» قرب باريس بتاريخ 29 يناير 2004 ، وصادروا منه ثلاثة أقراص CD تحتوي على وثائق ألمانية وفرنسية وسورية تتعلق بهذه القضايا، فضلاً عن وثائق تدين جاك شيراك بقبض أموال من رفيق الحريري و صدام حسين. ويومها نشرت الصحف الفرنسية خبر المداهمة، بعد أن قام محاميّ بوردون بالادعاءعلى المخابرات الفرنسية أمام الشرطة الجنائية، كإجراء احترازي لحمايتي ( راجع ما نشرته صحيفة «لوباريزيان» عن القضية بتاريخ 5 فبراير 2004 ). وفيما يتعلق بتورط المخابرات الفرنسية في «مجزرة الأزبكية»، صدر كتاب فرنسي في العام 2014 بعنوان «الطريق إلى دمشق:الجانب المظلم من العلاقات السورية - الفرنسية»، للصحفيين الفرنسيين جورج مالبرونو و كريستيان شينو، وثيقي الصلة بالمخابرات الفرنسية، على الأقل منذ اختطافهما في العراق في العام 2004 وإطلاق سراحهما مقابل الكشف عن مصدري في المخابرات العسكرية السورية، المقدم علي فاضل. وفي هذا الكتاب نقل المؤلفان عن مصدر في المخابرات الفرنسية تأكيده صحة ما كنت نشرته أنا في العام 2005 عن تورط المخابرات الفرنسية في «مجزرة الأزبكية». وكانت المرة الأولى التي تعترف جهة رسمية فرنسية بتورط فرنسا في الجريمة منذ وقوعها في العام 1981.
(1) ـ أفرجت المخابرات العسكرية الأميركية (مخابرات الدفاع DIA) في العام 2013 عن أول وثيقة سرية تتعلق بالمعلومات الدقيقة عن تلك الأحداث، لاسيما ما سمي بـ «مجاز حماة /1982». وقد أكدت الوثيقة التي أعدها كاتبوها في أيار/ مايو 1982 وتقع في 13 صفحة، أن كل ما نشره الأخوان المسلمون و وسائل الإعلام العالمية عن ذلك «كذب سافر». فمن قتلوا في حماة من طرف السلطة و طرف الأهالي وطرف الأسلاميين لم يتجاوزوا في مجموعهم ألفي شخص، وفق ما تؤكده الوثيقة/التقرير! وتضمنت الوثيقة/التقرير أيضاً (في صفحتها الخامسة)خريطة تسلل المجموعات الإسلامية من «لواء اسكندرون» المحتل ومناطق أخرى في الجنوب التركي إلى حلب وإدلب وحماة بمساعدة المخابرات التركية والحلف الأطلسي. وقد ترجمتُ التقرير في حينه ونشرتُه على موقعنا SyriaTruth قبل عامين من إغلاقه مطلع العام 2015، بعد أن تلقيت تهديداً مباشراً من مكتب علي مملوك بأنه «سيعمد إلى سحل أمي من شعرها في شوارع جبلة إذا لم أغلقه فوراً». وكانت المرة الأولى التي أشعر بالخوف، فامتثلت لتهديده، لأن أمي كانت دوماً نقطة ضعفي الوحيدة القاتلة كما «كعب أخيل».
(2) ـ كان ماركوس فولف يستخدم اسم ميشا دائماً، ويحب أن يناديه الآخرون به، كونه الاسم الطفولي التحببي الذي أطلقه عليه السوفييت ( كتصغير روسي لاسم ماركوس) حين فر مع أبويه إلى الاتحاد السوفييتي بعد استيلاء النازيين على السلطة في العام 1933. وكان يومها في العاشرة من عمره، وكانت العائلة مطاردة من قبل «الغستابو» النازي بسبب انحدارها من الطائفة اليهودية وخلفيتها الشيوعية. أما والده، فريدريش فولف، الطبيب والكاتب المسرحي الشهير، فكان أحد القادة الميدانيين في «ثورة سبارتاكوس» الألمانية في العام 1919 إلى جانب الباسلة العظيمة روزا لوكسمبورغ ورفيقها كارل ليبكنخت ، ثم أحد قادة «الألوية الأممية» خلال الحرب الأهلية الإسبانية في العام 1936 بين القوى الديمقراطية و نظام فرانكو الفاشي المتحالف مع هتلر .




No comments:
Post a Comment
Note: only a member of this blog may post a comment.