Thursday, 16 October 2025

في ذكرى رحيل «سليمان العيسى» الذي حول «أردوغان» منزل أهله في «النعيرية» إلى ... زريبة حيوانات 

ــــــــــــــــــ

  حين كنت أبحث في أرشيف «نزار» عن أشياء قديمة ، عثرت على هذا البوست الذي نشره يوم وفاة الشاعر «سليمان العيسى» في 9 آب 2014. ولأنه يهمني بشكل خاص يتعلق بطفولتي، أعيد نشره هنا.

أما علاقتي به فهي أنني كنت ، كما الكثيرين من الأطفال، أردد أشعاره في المدرسة الابتدائية. والمضحك، هو أننا كنا ـ حين نختم القصيدة / الأنشودة - نذكر معها بنبرة لحنية : سليمان العيسى ... سليمان العيسى، ونصفق، معتقدين أن هذا الاسم «جزء من أبيات القصيدة»!

بالنسبة لنا نحن في الأردن ، كان الأمر فيه حساسية خاصة. فأواخر السبعينيات ( كما أذكر) تقرر توحيد المناهج الدراسية الابتدائية بين سوريا والأردن، فكان الأطفال الأردنيون والسوريون يقرؤون «سليمان العيسى»، بينما يقرأ الأطفال السوريون نصوصاً لـ «تغريد النجار»  و «روضة الفرخ الهدهد» وغيرهن، إذا لم تخني الذاكرة.

   بقي الأمر هكذا حتى وضع ملِكنا الجاسوس «حسين بن طلال» بيضه كله في سلة شقيقه الجاسوس الآخر «صدام حسين» وبدؤوا يرسلون السيارات «الأخوانية» المفخخة إلى الشوارع السورية ، ويغتالون الأطباء وأستاذة الجامعات ..إلخ . وطبعاً ، النظام السوري لم يقصر، فحاول اغتيال «مضر بدران»، ونجح في اغتيال  الصحفي الأردني اللامع « ميشيل النمري » في اليونان في أيلول 1985، رغم أنه كان معارض للنظام الأردني ومطلوب، لأنه كان يصدر  نشرة «النشرة» ( إذا مش غلطانة بالاسم) المعارضة لجميع أنظمة العمالة والجاسوسية ... من «الشام لبغدان ... إلى مصر فتطوان»!!

 مطلع العام 1991، تمكن «نزار»، ويومها لم أكن أعرفه، فقد كنت لا أزال طالبة في كلية الصحافة بـ«جامعة اليرموك» ، من زيارة معسكرات تدريب «الأخوان» السوريين قرب مدينة «السلط». ويومها كانت المعسكرات أصبحت خرابة . ورأى آثار طلقات التدريب و آثار شظايا القنابل اليددوية التدريبية على جدرانها المهترئة والمتداعية.

  كانت زيارته إلى تلك المعسكرات بفضل الروائي «سالم النحاس»، رئيس تحرير صحيفة «الأهالي» ومجلة «الأردن الجديد»، اللتين كان «نزار» سكرتير تحريرهما، بعد أن أرسله «نايف حواتمة» و «قيس عبد الكريم السامرائي /أبو ليلى» في كانون الأول 1991 إلى الأردن ليساعد رفاقه في «الأهالي» و «الأردن الجديد» بعد «الانفراج الديمقراطي». ولكن لم يطل الأمر، فقد اعتقله مدير المخابرات الأردنية الفريق «مصطفى القيسي» و وضعه بالكلبشات في طائرة متوجهة إلى قبرص . ولم يدخل الأردن بعدها إلا مرة واحدة في العام 2004 ، بمساعدة صديقته النائبة «توجان الفيصل» و «سالم النحاس» والنائب «بسام حدادين» وآخرين ( موجودين على هي الصفحة، ومش حابة سببلهم إحراج!). وكان سبب زيارته هذه المرة للتحقيق في مصير ضابط سوري، ملازم أول ، من قرية «اليادودة» بريف درعا، مفقود منذ «أيلول الأسود» في  العام 1970 اسمه « فرحان يوسف شحادة الزعبي». وكان «الزعبي» راح «فرق عملة» بين «الملك حسين» و«حافظ الأسد» ولم يتكشف مصيره حتى اليوم! ويومها أيضاً (أيلول 2004) طردوه بعد أسبوع من وصوله، فهزم الحكومة والهاشميين كلهم حين أخذ «ابنتهم» ( يلي هيي أنا) وتزوجها في العام التالي!

  بعرف أنه فات شهرين على ذكرى وفاة «سليمان العيسى»، بس حبيت ذكر فيه، خصوصاً الآن، ولأنه البوست كتير حميمي، وكتير فيه ذكريات خاصة، وكتير ببكّي وبيقهر!( بالمناسبة: بعدهم ما نبشوا قبره بسوريا لأنه «علوي»؟ ولا فصلوه من «اتحاد الكتاب العرب» لأنه... «فلول»؟ أنتو السوريين صرتوا فضيحة العصر!). 

(فيكتوريا) 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

 

في العام 1984، وخلال إجازة من خدمتي العسكرية، زرت سليمان العيسى (أبو معن) في مكتبه بوزارة التربية لأسلّمه رسالة من جدي تتضمن دعوة له ولزوجته الدكتورة ملكة أبيض لتمضية عطلة صيف في قريتنا، وكان آنذاك الموجه الأول للغة العربية في الوزارة، وعلى أبواب التقاعد.

رحل اليوم "أبو معن" عن 92 عاما دون أن يرى شجرة التوت في "النعيرية" بلواء اسكندرونة ، التي كان يلعب تحتها "الطميمة" في طفولته. هو ـ بمعنى ما ـ فلسطيني يموت في المنفى دون أن يتمكن من العودة إلى قريته الفلسطينية التي يحتلها طوراني وتلمودي آخر!


   كان لواء اسكندرونة نكبتنا الأولى قبل فلسطين وقبل الجولان. وعلى الأرجح ستصبح سوريا كلها نكبتنا الرابعة و"الأخيرة" بعد اللواء وفلسطين والجولان!

  تخلى آل الأسد عن لواء اسكندرون في صفقة "أضنة" الشهيرة العام 1998. يومها اتصل اللواء عدنان بدر حسن بحافظ الأسد وقال له:" سيدي، الأتراك يريدون إضافة بند إلى الاتفاق في آخر لحظة ينص على أن الطرفين يقران بأنه لم يعد بينهما خلافات حدودية"! رد الأسد: " وقع يا عدنان، وقع"! رد عدنان:"سيدي ، المستشار القانوني للوفد [الدكتور رياض الداودي] يقول إن إضافة هذا البند يعني أننا تخلينا قانونيا وفق القانون الدولي عن اللواء"! أجاب الأسد :" وقع يا عدنان على كل ما يطلبونه، فالتوقيع لن يلغي عروبة اللواء وسوريته، والزمن يحل المشاكل كلها، والشعوب لا تُلغى من التاريخ بتوقيع من حافظ الأسد أو من عدنان بدر حسن"!

  صحيح. ربما كان هذا من أصدق ما قاله حافظ الأسد . الشعوب لا تلغى من التاريخ بتوقيع جنرال. ولكن الديوث الأخواني ـ التلمودي "رياض الشقفة" ذهب مذهباً لم يستطع حتى حافظ الأسد نفسه الذهاب فيه وإليه. قال العام الماضي بصريح العبارة :" اللواء ليس سورياً وليس عربيا، وسكانه ليسوا عربا وليسوا سوريين"!

الفرق بين حافظ الأسد ورياض الشقفة هو أن الأول كان داعر سياسة بامتياز، ولكنه كان يخجل من ممارسة الدعارة السياسية علنا ، خصوصا حين تتصل بالقضايا الوطنية الكبرى، لأنه يعرف أنها عار. كان يؤمن بأن الليل والكواليس ستّاران للعيوب . أما رياض الشقفة ـ وكأي إسلامي تلمودي ـ يكشف عن طيزه وسط الشارع ويدعو الآخرين ، حتى وإن كانوا إسرائيليين أو أتراكاً ـ لاغتصابه من مؤخرته وسط الشارع وفي وضح النهار!( أولم يسبقه علي البيانوني إلى ذلك حين كشف عن مؤخرته على القناة الإسرائيلية الثانية وأطلق ضرطته الشهيرة من فمه وطيزه معاً: المشكلة بين سوريا وإسرائيل هي حدود الرابع من حزيران 1967 ، والحل هو القرار 242 و338 !؟).


أطلق حافظ الأسد النار على سليمان العيسى في"أضنة" العام 1998، لكنه لم يمت ، فأكمل عليه الشقفة والبيانوني في العام 2012 بطلقة تركية ـ طورانية ـ إسلامية بين عينيه!

 ***

حين دخلت عليه في مكتبه العام 1984، كان يجلس خلف أكوام من الورق والمصنفات والكتب وبالكاد يظهر رأسه وقامته الصغيرة من ورائها. كنت في الثانية والعشرين من عمري، ولم أكن التقيته من قبل. ولكني كنت أعرف تاريخه كله كما رواه لي جدي زيدان ( والد أبي) قبل سنوات على ذلك. أما هو ، فلم يظن سوى أني مدرس لغة عربية جديد على المهنة أراد أن يراجعه في مشكلة وظيفية، أو صحفي أراد إجراء مقابلة معه عن تعليم اللغة العربية الذي أصبح كابوسا للطلاب السوريين بسبب مناهجه الخشبية.

قلت في نفسي وأنا أدلف إلى مكتبه : لن أقدم نفسي له بطريقة تقليدية، ولكن بطريقة مبتكرة، لأمتحن ذاكرته. فأنشدته هذين البيتين من الزجل:

«يا حسنا شو بتريدي ... ملبّس ولا عبيدي»

«والسما من دون نجوم ... متل بيدر حصيدي»!

(المقصود بـ "العبيدي" في الشطر الثاني من البيت الأول هو الفستق أو الفول السوداني، المسمى «فستق العبيد» في بلادنا، بسبب الثقافة العنصرية الضاربة أطنابها في حياتنا!).

ما إن انتهيت من البيتين/ الأهزوجة حتى نهض من وراء مكتبه ودار حوله واتجه نحوي وأخذني بحضنه كما لو إني ابنه الذي لم يره منذ دهر، وقال بالفصحى: من أنّى وحيثما جئت، وأياً كان اسمك، لا بد أنك تمتّ لآل نيوف في «بسنديانة» بصلة. هل تعرف «آل نيوف» وهل تعرف «بسنديانة» يا بنيّ!؟

قلت له : أنا نزار نيوف ، من بسنديانة!

قال : أنت لا بد حفيد الشيخ فاضل نيوف .

قلت: أنا حفيد ابنه .

قال: أيّهم ؟ راشد ، شيبان، أحمد، زيدان، أم حامد!؟

كان يحفظ أسماءهم عن ظهر قلب رغم أنه لم يدخل قريتنا منذ لجأ إلى منزل جدي فاضل مع «زكي الأرسوزي» و«محمد الفقير» و «وهيب الغانم» بعد نكبة اللواء في العام 1939، ومنذ آخر لقاء بينه وبين جدي زيدان في العام 1969.

قلت له : أنا حفيد الشيخ زيدان، وابن ابنه علي.

قال : وماهي أخبار عمك آصف وابن عمك أكرم؟ إلى أين أوصلهما الدهر بعد أن ذهبا إلى الدراسة في هنغاريا / المجر وبلغاريا؟... قبل أن يمطرني ويمطر عائلتي بزخة من مطر المديح والإطراء جعلتني أنكمش على نفسي خجلا ، وأنا الشاب الصغير، في حضرة ضيوفه الكبار الذين كان بينهم ، كما تبينت لاحقا، شعراء وأكاديميون عرب لا أزال أذكر منهم الشاعر والأكاديمي اليمني البارز«عبد العزيز المقالح».

***

في حضرة سليمان الخش : «قنباز جدك يعرب بيعرف أكثر من الدولة»!

في العام 1969 ، نجح عمي الأكبر، «آصف»، وابن عمه «أكرم» ، في الثانوية العامة بتفوق كان يؤهلهما لدراسة الاختصاصات العلمية كلها في الجامعات السورية (كان لدينا جامعتان فقط، في دمشق وحلب). ولكن الفقر المدقع الذي ضرب أطنابه في عائلتيهما كان سيحرمهما من التعليم ويضع أمامهما خياراً واحداً: إحدى الكليات العسكرية. ولو فعلا ذلك، لكانا الآن جنرالين يقمعان الناس في الشوارع، أو مستلقيين في حفرتين مع ستين ألفا آخرين من الشهداء، أو نزيلين في سجن ما من سجوننا التي أصبحت أكثر وأكبر من المدارس والجامعات!


  يومها ضرب جدي زيدان أخماسه بأسداسه وقال لنفسه: ليس لنا إلا «أبو معن». فهو موظف كبير في وزارة التربية،و«يمون»على الوزير «سليمان الخش». فقرر التوجه إلى دمشق حاملا معه كل ما أوتي من بلاغة الفلاح وذكائه، وكل ما أوتي من ...فقر كان ينضح من بين مساماته كلها!

لم تكن بيوض مافيات «حافظ الأسد» وشقيقه زعيم «سرايا دفاع» قد فقست بعد في أعشاش الدولة ومفاصلها. كانت معايير «روبسبير البعث»، «صلاح جديد»، ورفاقه «اليعاقبة»، كما أسميتهم باكراً في أطروحتي الجامعية غير المكتملة في التاريخ الاقتصادي عن «ظاهرة الرسملة والبلترة في الدولة الفاطمية» في العام 2005، وليس دون سبب علمي وجيه، هي المعايير السائدة ، رغم أن الشقيقين الشقيين كانا بدآ يضعان تلك البيوض في أعشاش الدولة منذ أزمة الحزب في العام 1968. ولهذا كان أمل الشيخ زيدان بإيفاد ابنه وابن أخيه في بعثة دراسية كبيراً ، طالما أن معايير الإيفاد لم يكن أحد يستطيع آنذاك القفز من فوقها بمظلة من مظلات «سرايا الدفاع» و «شبيبة الثورة»!

دخل الشيخ على «أبو معن» وقص عليه قصته باختصار مكثف جداً وبلاغة أشد كثافة: «ابني آصف وابن أخي أكرم نجحا بتفوق، ولا يمكن لهما أن بتابعا الدراسة ، ونحن ما زلنا على حطة إيدك بالعام 1940 »!

وضع يده بيده وتوجه به إلى مكتب الوزير «سليمان الخش» في الطوابق العليا من الوزارة ، وقدمه لهذا الأخير على هذا النحو: هذا من عائلة يصح فيها ما قاله «مروان بن أبي حفص» في «معن بن زائدة»، وهي لا تطلب منك ومن «أبو أسامة» (صلاح جديد) إلا حقها، وأنشد بيتين لـ«مروان بن أبي حفص» من لاميته الشهيرة:

همُ القوم إنْ قالوا أصابوا ، وإن دُعوا ... أجابوا ، وإن أَعطوا أطابوا وأجزلوا

فما يستطيع الفاعلون فِعالهم .... وإنْ أحسنوا في النائبات وأجملوا

وتابع يقول : هذا من عائلة كانت منازلها أولى المنازل التي تقصفها الطائرات الفرنسية وتحرقها بعد أن نزل الفرنسيون على شواطئنا في العام 1920 ، لا لشيء إلا لأن عمه «العكيد» (مفلح حسن نيوف) كان قائدا لإحدى جبهات «الشيخ صالح العلي». كل ما يريده « أخي أبو علي» هو إيفاد ابنه وابن أخيه لمتابعة دراستهما في منحة دراسية.

نظر «سليمان الخش» إلى «أبو معن» بعد أن كان دعاه مع جدي إلى الجلوس، وقال : إذا توفرت في ابنه وابن أخيه شروط الإيفاد ، وكان له حق سيأخذه من عيني أنا قبل أن يأخذه من عين الدولة ! وقبل أن يتم عبارته ، عاجله الشيخ بالقول: «إلي الحق كله، والشروط كلها متوافرة»! وعندها أجابه «سليمان الخش» بنبرة تنطوي على المزاح والدعابة: «وما الذي أدراك يا عم أن الشروط متوفرة فيهما»؟ فلم يكن أمام جدي ، وكأي فلاح نزق يدافع عن حقه بشراسة ، لأنه يعرفه، إلا أن عاجله بالقول: «شو يا جناب الوزير، ما حدا بيعرف الحق غير القاضي؟ وإذا كنت عم بتقارن بين قنبازي وبدلتك الفرنجية ، وبتظن أنو البدلة بتعرف أكتر من القنباز، بدي ذكرك بشغلة يبدو أنو الكرسي نسيتك اياها : جدك يعرب بن قحطان كان يلبس هدا القنباز»! وتابع يقول:« أنتو حطيتوا 3 شروط للبعثات : أن يكون الموفد فقيرا وبعثياً وعلاماته مرتفعة. إذا بدك التزام بمبادىء البعث ، خود التزام قد ما بدك، وإذا بدك فقر وعلامات، خود فقر وعلامات قد ما بدك»!

امتاز «سليمان الخش»، كبقية «يعاقبة» صلاح جديد ، بالتواضع وطهارة الكف و الطهرانية المسلكية والولاء لوهم كبير اسمه «دولة العمال والفلاحين»، عاشوا وعملوا من أجله كما لو أنه سيعيش أبداً، ولن يموت غداً ! فقد كانوا غافلين عن الكمين الذي كان ينصبه لهم ولدولتهم آنذاك «حافظ الأسد» وشهبندر التجار «بدر الدين الشلاح» وبقية الملأ الأموي المكي الدمشقي، والذي سينفجر بهم وبـ«دولة العمال والفلاحين» على مبعدة أقل من عامين من ذلك التاريخ! ولهذا أسقط في يدي «سليمان الخش»، وأجاب جدي بالقول:«خلص،طالما هيك يا عم أبو علي،اعتبرهم راحوا بعثة».وهذا ما جرى: ذهب «آصف» إلى هنغاريا لدراسة هندسة الميكانيك، وذهب «أكرم» إلى بلغاريا لدراسة الهندسة الكهربائية!

***

في العام 1940، وبعد كارثة «اللواء»، لجأ سليمان العيسى و زكي الأرسوزي و محمد الفقير و وهيب الغانم ، وكان الأربعة من أبرز وجوه العمل الوطني المقاوم في أنطاكيا في مواجهة المؤامرة الفرنسية الدنيئة لسلخ "اللواء" عن جسد الأم، إلى منزل جد والدي، فاضل نيوف. إلا أن الأرسوزي والغانم لم يطيلا المكوث طويلا، ولم يحتملا شظف العيش في قرية معلقة بين السماء والأرض، ومعزولة عن العالم كما لو أنها في كوكب آخر، ولا تستطيع الوصول إليها إلا ركوباً على دابة من المناطق المجاورة ، ولم تكن تعد سوى بضع عشرات من البيوت، فغادرا ليشقا دروبهما في عالم السياسة في مكان آخر. أما العيسى والفقير فقد بنيا في المنطقة أول مدرسة من غرفتين ، واحدة تستخدم للتلاميذ من الصف الأول وحتى السادس، والثانية غرفة نوم وإدارة للمعلمين الإثنين ، ومستودعاً للحطب و«الجل»(روث البقر اليابس) الذي كان يحضره التلاميذ للتدفئة! وكان أبي واحداً من عشرين تلميذاً هُم دفعتها الأولى عند افتتاحها في العام 1941، ومعه «حمدان أحمد محفوض» و «توفيق ماجد جلول» (الأول، حمدان، ذهب إلى الكلية الحربية وأصبح قائد كتيبة مدرعات واستشهد في حرب 1973 قرب «الخشنية» ونال بجدارة وسام بطل الجمهورية بعد أن أظهر بسالة مذهلة فاجأت حتى أهله بسبب هدوئه الذي عُرف به في القرية، والذي كان موضع تندر وسخرية من قبل أقرانه وحتى زملائه في الجيش؛ والثاني، توفيق ماجد جلول، أصبح أيضاً قائد كتيبة مدرعات في الحرب نفسها واللواء نفسه، اللواء 12، في الفرقة الخامسة، ونال وسام بطل الجمهورية أيضاً؛ لكني لست متأكداً من جدارته بالوسام،رغم أنه سيكون أحد أبطال معركة «السلطان يعقوب» في حزيران/ يونيو 1982 في جنوب لبنان، وكان بمثابة عمي، فقد كان أخاً لأبي من الرضاعة، فأمه أرضعت وربّت أبي اليتيم بعد أن ماتت والدته أثناء الولادة. وعلى أي حال، فهو - وحين كان يريد أن يسأل أبي عن أخباري، وكان أصبح قائد فرقة ثم نائباً لرئيس الأركان - لم يكن يلفظ اسمي حتى في مناسبات اجتماعية يحضرها العشرات من الناس؛ فقد كان يسأله دوماً بهذه الصيغة:«كيفه العكروت وشو أخباره»؟وكان يتقصد العبارة بدلالتها الشتائمية ،وليس على سبيل المزاح . فقد كنت أصبحت بالنسبة له مجرد«عكروت»فعلاً ...منذ أن اعتُقلت للمرة الأولى بسبب اقتناء وتوزيع منشورات حزب «رياض الترك» في مصياف/ حماة/ وأنا قاصر،أواخر العام 1979؛وكان هو من توسط لي للخروج عند صاحبه «علي دوبا»، لأني كنت طالب بكالوريا ودون السن القانونية، ولأن أمه / أم توفيق/، التي كانت بمثابة جدتي فعلاً، وبكيتها بكاءً مريراً يوم توفيت لأنها أرضعت أبي وربته، قالت لابنها قائد اللواء 81 في الفرقة الثالثة يومها:« ما إلك فوتة ع الضيعة ولا دخلة لهدا البيت يا أبو وفيق طول ما نزار محبوس. هدا ابن علي اليتيم، يلي كرامته عندي من كرامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»!). 

  أتذكر «توفيق جلول» الآن وأقول: ربما كان مصيباً حين كان يصفني بـ «العكروت»، لأنه لم يكن يعلم سوى أني من جماعة «رياض الترك»، ولا يعلم أني تركت - بعد اعتقالي الأول- هذه المدرسة التي أفسدت العمل السياسي الوطني المعارض في سوريا وخرّبته ودمرته أخلاقياً كما لم يفعل أحد آخر، ربما باستثناء الأخوان المسلمين!

 ***

  في ذلك العام ، 1940، جاءت عمتي الكبرى «حسناء» (أم وعد) إلى الدنيا، بعد أن كان جدي تزوج فور وفاة جدتي، كما يفعل أي «دكر»، واستأنف تقديم إنتاجه الجديد إلى العالم! وكان «سليمان العيسى» أول من حملها بعد أبويها بين ذراعيه. وحين بكت بين ذراعيه، ارتجل قائلا :

« يا حسنا شو بتريدي ... ملبّس ولا عبيدي»

«والسما من دون نجوم ... متل بيدر حصيدي»! 

ومنذ ذلك الحين أصبحت الأهزوجة تُغنى من قبل صبايا الضيعة وشبابها في «أعياد الرابع»(عيد الزهور/ عيد الربيع/ نيسان). وبمرور الزمن لم يعد أحد يتذكر من هو القائل ولا المناسبة!

***

وداعاً «أبا معن»... عزاؤنا الكبير، رغم ضياع «اللواء» واستحالة بيوت «النعيرية» إلى اسطبلات لعصابات وبغال «جبهة النصرة» الأردوغانية ، أن المدرسة التي وضعت أنت حجر أساسها وزرعت فيها أول شجرة للمعرفة، خرّجت ولا تزال تخرّج أجيالا تمقت شهبندر التجار والملأ المكي ، وتؤمن بأن الشعوب «لا تلغى بصفقات وتواقيع جنرالات»، وأن الصبايا اللواتي ولدتهن عمتي وبنات جيلها لا زلن يَرين السماوات ونجومها رغم الحريق الكبير والدخان الأسود الذي يعمي البصائر قبل الأبصار! أما الأجيال التي تخرجت في تلك المدرسة ، فستبقى تنشد معك في «سجن المزة» وفي سجون الطاغية كلها، بحنجرة «عبد العزيز الخيّر» ورفاقه كلهم:

يا مهبط الأحرار .. زان جباهَهم لقبُ العصاةِ !

يا قلعةَ المتمردين .. على العصور البالياتِ

يا منزل الصّم ، الصِّلاب ، من الصخور المؤمنات !

يا معقل الصمت الأبيّ ، يهد أعصاب الطغاةِ

يا سجنُ .. يا دار العقيدة تستخفُّ بكل عاتِ !

هيهات .. يهدأ فوق رأس البغي زأرُ العاصفاتِ !

 هيهات .. تنطفئ الحياة ، ونحن أنفاس الحياةِ !

هيهات! .. إن الفجر - ولتهزأ بنا الظلماتُ - آتِ ...

قل «للرقيب» ، وقد تقنّع وجه سادته العتاةِ

ومضى يوزع في الرواق شتائماً .. متلاحقاتِ !

 ويدقه بحذائه دقاً .... يهز النافذاتِ

مهلاً أبا السطَوات .. بعضَ الكبر ، وأذن بالتفاتِ !

بعضَ العبوس .. فلستَ إلا من أقاربنا العُفاةِ

من هذه الفِلـَذ الطَّحِينة بين أشداق البُغاةِ !

من شعبنا المتمزق ، المسحوق تحت النائباتِ

بعضَ التجهم ، يا رقيب ، لتفهمنّ غداً شكاتي !

نحن الطريق .. ولو وعَيت - إذاً لكنت مع المشاةِ

نحن الطريق .. ولو نأت ، وتراكمت بالأضحياتِ !

هذا ثرانا يا رقيب ، ومنبت الصيدِ ، الأباةِ

هذي ملاعبنا .. تتيه بما تضم من الرفاتِ

بأريجنا ، بدم الضحايا ، ما تزال معطّراتِ !

إنا لنهواها .. ونعرفها مَواتاً ، في مَواتِ

إنا سنبعثها .. مسارجَ للهداية ، والهداةِ

إكليلَ غار للحياة على جبين الكائناتِ

No comments:

Post a Comment

Note: only a member of this blog may post a comment.