عن «عبد الرؤوف الكسم» الذي وضعني في زنزانة انفرادية عشر سنوات .... «بسبب زوجته»!؟
( وثائق رسمية سورية وألمانية تنشر للمرة الأولى)
ــــــــــــــــ
بمناسبة وفاة رئيس الوزراء ورئيس مكتب الأمن القومي الأسبق في سوريا، «عبد الرؤوف الكسم»، أعيد هنا نشر مقاطع من مذكرات شخصية كتبها «نزار» قبل سنوات بشكل متفرق دون أن ينشرها. وقد عدلت بعض الجمل فيها لكي تتناسب زمنياً مع الوقت الحاضر، وأضفت الأسطر الثلاثة الأولى بما يتناسب مع الحدث ومضمون النص.
يرجى الضغط على الصور والروابط من أجل تصفح أوضح.
(فيكتوريا)
ـــــــــــــــــــ
بهدوء، ودون أي ضوضاء أو حتى تغطية إخبارية تذكر، رغم أنه كان رئيساً للوزراء في حكومتين، وعضواً في قيادة حزب البعث، والأهم أنه كان رئيساً لأعلى سلطة أمنية في البلاد ( مكتب الأمن القومي) وتحت يديه أراشيف وأسرار الدولة كلها، توفي «عبد الرؤوف الكسم» قبل بضعة أيام في ميونخ الألمانية عن 92 عاماً.
بالكاد يمكن العثور على مواطن سوري عمل في الشأن العام خلال «عهد الأسد الأول» دون أن يكون له قصة خاصة مع الدكتور«الكسم»، الذي كان شقيقه الفيلسوف، الدكتور«بديع»، أحد مؤسسي «حزب البعث» ومنظريه الأوائل، و والدُه أولَ مفتٍ لدمشق بعد تأسيس الدولة السورية على أنقاض بقايا دولة السلاجقة العثمانيين.
تتراوح قصص السوريين مع «الكسم» من مجرد ارتكاب «مخالفة بناء» يوم كان محافظاً للعاصمة، إلى قضايا وطنية كبرى من عيار ومستوى قضية «مطارالمزة العسكري» (مطار دمشق الدولي القديم)، الذي أراد إلغاءه و«الاستيلاء عليه» بطرق ملتوية مع شركة عقارات سويسرية - ألمانية ( لم تكن في واقع الحال سوى واجهة لشركة تطوير عقاري إسرائيلية إحتكارية عريقة معروفة باسم «אפריקה ישראל להשקעות»/«أفريكا- إسرائيل ليهاشكاؤوت»=الاستثمارات الإسرائيلية الأفريقية!) من أجل إقامة مشروع عقاري يلائم تطلعات البرجوازية التجارية الدمشقية التي يمثلها، والمرتبطة تاريخياً بالحركة الصهيونية منذ تبلور وعيها السياسي والاجتماعي «كطبقة بذاتها ولذاتها» على يد أحزاب وشخصيات «الكتلة الوطنية» التي كان قادتها،بالجملة والمفرق،مجرد عملاء وجواسيس للحركة الصهيونية و«الصندوق القومي اليهودي»!
أما أنا فقصتي معه تختلف عن هذه القصص كلها!
في العام 1985، وحين كنت أؤدي خدمة العلم، اقتضت طبيعة خدمتي في القوى الجوية والدفاع الجوي أن احتك بشكل دائم مع الضباط الخبراء السوفييت، ومع زملائهم الألمان الشرقيين لاحقاً، حين أخذت ألمانيا الديمقراطية (في العام 1984-1985) على عاتقها تحديث شبكة الدفاع الجوي إلكترونياً (إدخال نظام الرمي التلفزيوني الحي،أي مشاهدة الهدف بشكله الطبيعي وليس كنبضة إلكترونية يمكن تشويشها: Physisch sichtbares Ziel) بعد المجزرة التي تعرض لها دفاعنا الجوي وقواتنا الجوية خلال الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وبعد أن توفي « يوري أندروبوف» مطلع العام 1984، الذي كان فتح - للمرة الأولى - أبواب المخازن العسكرية السوفييتية (رغم أصوله «اليهودية»!!) أمام الجيش السوري إلى حد لا سابق له، قبل أن يُعادَ إغلاقُها فور وفاته،خصوصاً في عهد«غورباتشوف». وكان«أندروبوف»ضرب عرض الحائط بقرار سوفييتي صهيوني «أبدي»،وروسي فيما بعد،يقضي بعدم تسليم أي سلاح هجومي أو كاسر للتوازن لأي دولة تكون في حالة حرب مع إسرائيل! وكان هذا مجرد ترجمة عملية لـلطبعة الصهيونية الرخيصة من «الماركسية - اللينينية - السوفييتية»، التي لم يشذ عنها - يا للمفارقة - سوى قائد من أصول «يهودية»! وفي تلك الفترة تعرفت على الرائد المهندس العبقري الراحل، الصديق«جورج فاضل متى»، صاحب أول مشروع في العالم لإنشاء قواعد جوية تحت الأرض (يتسع كل منها للواء كامل: ثلاثة أسراب قاذفة ومقاتلة، مع ملاحقه التقنية واللوجستية وخزانات وقوده ومهاجع طياريه...إلخ)، والذي رفضه «حافظ الأسد»، رغم موافقة جميع الضباط والخبراء المعنيين، وعلى رأسهم رئيس الأركان وقائد القوى الجوية وكبير خبراء القيادة العامة / رئيس البعثة الاستشارية العسكرية السوفييتية! ذلك قبل أن يُسرح «جورج» من الجيش برتبة مقدم مطلع نيسان /أبريل 1986 ، بطلب من فرع المخابرات الجوية، بعد حوالي ثلاثة أشهر من الاعتقال على خلفية ضبط نسخة من جريدة «الراية الحمراء» التي يصدرها «حزب العمل الشيوعي» تحت فراش نومه في مكتبه بمحطة الاستطلاع الجوي في «مرج السلطان» بريف دمشق! وهذا ما دفعه إلى مغادرة البلاد نهائياً إلى «برلين الشرقية»، المكان الذي حصّل فيه علومه الهندسية العسكرية مطلع السبعينيات، قبل أن يتوفى بعد بضع سنوات بسبب إصابته باللوكيميا الناجمة عن طبيعة خدمته العسكرية ( تعرضه على مدى سنوات طويلة لكميات كبيرة من الأمواج الكهرطيسية الرادارية. وهذا النوع من سرطانات الدم شائع في أوساط من يخدمون في القوى الجوية والدفاع الجوي في كل أنحاء العالم، لاسيما منهم من تكون خدمتهم في مجال الرادارات والاستطلاع الجوي. وبسبب هذا الخطر وأخطار أخرى، كان هناك استثناء يسمح للضباط السوريين العاملين في هذا السلاح، وحدهم دون غيرهم، ودون موافقة مسبقة من إدارة شؤون الضباط،بالزواج المبكر قبل ترفيعهم لترتبة ملازم أول وتثبيتهم كضباط عاملين، لأنهم معرضون للإصابة بالعقم أيضاً).
***
في العام 1985، وخلال فترة الاستراحة على هامش لقاء عمل في مقر قيادة الدفاع الجوي في «المليحة» بريف دمشق، شارك فيه خبراء سوفييت وألمان شرقيون، انتحى أحد الضباط المهندسين بالرائد «جورج» ودردش معه لبعض الوقت،فقد كان زميله وصديقه (والأرجح أستاذه، فلم أعد أذكر) منذ دراسته في أكاديمية القوى الجوية في «شتراوسبيرغ» في ضواحي «برلين الشرقية». وخلال حديثهما، أشار لي «جورج» بيده من بعيد أن أنضم إليهما، قبل أن يقول لي : «لدى الرفيق الكولونيل آكرمان(وكان هذا اسمه الثاني/ كنيته) معلومات سَيَسيل لها لعابك، باعتبارك ضابط بوليس وصائد جواسيس»! (هكذا كان يلقبني مازحاً بسبب شغفي في تسقّط أخبار العملاء والجواسيس والمخبرين وأعضاء المافيات الرسمية من كل صنف ولون،وجمع المعلومات والوثائق عنهم وعن غيرهم وتكديسها)! وقد فهمت منه لاحقاً أنه أخبر الكولونيل بأن «نزار من جماعتنا، يمكنك أن تتحدث أمامه كما تشاء، وهو يعرف الروسية بشكل مقبول»! وكانت هذه الجملة الكودية ( «من جماعتنا») بمثابة شيفرة متداولة بين بعض الضباط السوريين اليساريين والخبراء السوفييت والألمان للإشارة إلى أن فلاناً «شيوعي أو يساري، وليس من جماعة النظام...إلخ».
يومها أخبرنا «آكرمان» أن زوجة رئيس الحكومة السورية «عبد الرؤوف الكسم .. إسرائيلية»!!
كان الأمر بمثابة قنبلة ذهَبَ انفجارُها بسمعي وأفقدني توازني العقلي للحظات، قبل أن أستعيده وأجري محاكمة عقلية سريعة لإمكانية أن يكون الأمر صحيحاً. فلا أخفيكم أني كنت أخشى وجود رواسب «معاداة للسامية» في ثقافة أبناء ألمانيا الشرقية منذ زمن «الرايخ الثالث» النازي (ما قبل تأسيس دولة «ألمانيا الديمقراطية» في أكتوبر 1949). ولكن، وفي الوقت نفسه، تذكرت أن قادة ألمانيا الديمقراطية المؤسسين للدولة نجحوا إلى حد بعيد في استئصال ثقافة «الرايخ الثالث» العنصرية من ثقافة مواطنيهم، وهو ما فشلت ألمانية الغربية فشلاً ذريعاً في معالجته... حتى اليوم، كما ينبغي القول! فقد كانوا (في ألمانيا الشرقية) الأكثر تميزاً ونبلاً والتزاماً بالأخلاق الماركسية من بين جميع قادة أوربا الشرقية كلها، والأكثر كفاحية وأممية بينهم قاطبةً (معظمهم، إن لم يكونوا كلهم،كانوا محاربين متطوعين في«الألوية الأممية» في إسبانيا، ومن أوساط عمالية متواضعة). و كانت «روزا لوكسمبورغ» تحتل مكانة عظيمة في ثقافتهم وتربيتهم السياسية و«جدانهم الوطني»،في وقت كان الصهيوني القذر «ستالين» يصفها في جلساته الخاصة حرفياً بعبارة «Хромая шлюха, которая ненавидит Ленина»( العاهرة العرجاء التي تكره لينين)! فقد كانت هذه الباسلة العبقرية تعاني من عرج خفيف بسبب شلل الأطفال الذي أصابها وهي طفلة، أو بسبب خلع ورك ولادي، فلم أعد أذكر.
إضافة لذلك، كان لديهم، في أعلى هرم القيادة، العبقري «اليهودي» المولد «ماركوس فولفMarkus Wolf »، مؤسس ورئيس جهاز مخابراتهم الخارجية HV-A، والرجل الذي جعل «الحلف الأطلسي» عاجزاً عن النوم إلا بعين واحدة طوال أربعين عاماً، وفق تعبير أحد ضباط «الحلف» حين باع «غورباتشوف» ألمانيا الديمقراطية بأقل من أربعة ملايين دولار إلى مستشار ألمانيا الغربية«هيلموت كول»!ويومها،في العام 1990، رفض «غورباتشوف» منح «فولف» لجوءاً سياسياً،رغم أنه كان عاش طفولته وشبابه خلال الحقبة النازية في الاتحاد السوفييتي واكتسب جنسيته مع أبيه، الكاتب المسرحي والطبيب «فريدريك فولف» ، الذي كان أحد قادة «الثورة الألمانية/ ثورة سبارتاكوس» في العام 1919، إلى جانب «روزا لوكسمبورغ» و «كارل ليبكنخت»، قبل أن يصبح أحد قادة «الألوية الأممية» خلال الحرب الأهلية الإسبانية وصديقاً للشاعر العظيم«فيدريكو غارسيا لوركا»إلى حين إعدام هذا الأخير من قبل فاشيي «فرانكو»!
ولعل الأهم من ذلك كله،أن ألمانيا الديمقراطية كانت الدولة الأوربية الشرقية الوحيدة التي رفضت الاعتراف بإسرائيل ولو ليوم واحد، ورفضت أن تدفع لها فلساً واحداً كتعويضات على خلفية الجرائم النازية ضد اليهود، وكانت ترفض رفضاً قاطعاً أن تكون إسرائيل وريثة قانونية لليهود ( دفعت ألمانيا لإسرائيل، بعد إعادة الوحدة في العام 1991، جميع المبالغ التي كانت ألمانيا الديمقراطية ترفض دفعها طوال أربعين عاماً!).
مرّ هذه الشريط كله في رأسي خلال ثوانٍ قبل أن أنتبه وأسأل الكولونيل «آكرمان» : «هل تعني أن زوجة الكسم يهودية»؟ عندها أطلق ضحكة صاخبة قبل أن يقطعها «جورج» ويجيبني موضحاً بالنيابة عنه: «الرفيق آكرمان من أصول يهودية أيضاً، وكان والده من محاربي الألوية الأممية»! وحينها دخل «آكرمان» على حديثنا واستأنف توضيحه قائلاً، بعد أن فهم أن «جورج» شرح لي باللغة الروسية التي كنا ثلاثتنا نفهمها سبب ضحكته الصاخبة: «كما قال لك الرفيق الرائد متىّ. أنا أنحدر من عائلة يهودية أشكنازية. حين تحدثتُ عن زوجة السيد الكسم كنت أعني حرفياً أنها مواطنة إسرائيلية، وليس يهودية فحسب، فهذا أمر لا يعنينا».
بعد ذلك ببضعة أشهر، وبمعية «جورج» حين كان يتراسل ، عبر الملحق العسكري الألماني الشرقي في دمشق العقيد «كلاوس بيرنت Klaus Berndt »، مع أحد الضباط المهندسين في الأكاديمية الجوية في «شتراوسبيرغ» في برلين بخصوص قضايا هندسية تتعلق بمشروعه العبقري (قواعد جوية تحت الأرض)، اصطحبني معه إلى سفارة ألمانيا الديمقراطية في «شارع عبد المنعم رياض» في «المالكي» وقدمني إلى الملحق العسكري. وهناك سأسمع من الملحق العسكري قصة زوجة «الكسم» نفسها التي سمعتها سابقاً من الكولونيل «آكرمان» في قيادة الدفاع الجوي!
بعد إنهائي
خدمة العلم استأنفت العمل مع دائرة الإعلام المركزي في «الجبهة الديمقراطية
لتحرير فلسطين».وخلال تلك الفترة سنحت لي ظروف العمل،والإمكانيات اللوجستية
الطباعية التي كانت بمتناولي،في تأسيس منظمة سرية («لجان الدفاع عن الحريات
الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا») في 10 ديسمبر 1989. وخلال تلك الفترة كنت
أطبع منشورات ومجلة المنظمة («صوت الديمقراطية») في«دار الأهالي للطباعة والنشر»التي كان يملكها الكاتب والصحفي الراحل«حسين العودات» (ابن عم الدكتور«هيثم مناع»/العودات)، حيث كنا ننضد مجلاتنا الثلاث التي تصدرها «الجبهة
الديمقراطية»، وهي «الحرية»، «الفكر الديمقراطي» و«الأردن الجديد». وهذه الأخيرة كنت أنا سكرتيراً لتحريرها باسم «نزار سلامة» تحت
إدارة رئيس التحرير العزيز «هاني حوراني»، الذي ألهمني تأسيس «اللجان» السورية، كونه
كان مؤسساً ورئيساً لـ «لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية في الأردن» ، قبل «هبة
نيسان 1989» التي سمحت له بالعودة إلى بلاده بعد سنوات طويلة من العيش في المنافي.
أما المجلات الثلاث فكانت تُنضد ضوئياً في «دار الأهالي» قبل إرسال أفلامها
للطباعة في مطابع «الجبهة» في نيقوسيا / قبرص، وكان من صلب عملي متابعة عمليات
التنضيد وإرسال الأفلام إلى هناك.
صيف العام 1988، وخلال أحد أسفاري إلى «جبلة» في شركة «الكرنك»، وأثناء التفتيش من قبل عناصر مفرزة «المخابرات العامة» في محطة انطلاق باصات الشركة في «البرامكة»، عثر رئيس المفرزة على أوراق «مريبة» في حقيبتي. وحين بدأ يقرؤها كنت أحس بأن شعر رأسه أخذ بالوقوف كما شوك القنفذ،أو هكذا تراءى لي، وليس شعري أنا فقط! فقد كان في الحقيبة مطبوعات ومنشورات من كل صنف ولون (غير ممنوعة عموماً. لكن بعض الأوراق كان مكتوباً باللغة العبرية. وكانت هذه الأوراق هي الدفعة الأولى من المعلومات التي وصلتني للتو من القدس المحتلة،عن طريق مكتب «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» في نيقوسيا،من الرفيقة والحبيبة الغالية،أمي الأخرى التي لم تلدني،المحامية«فيليسيا لانغر Felicia Langer»،التي كانت بدأت تساعدني في تحقيقي عن مصير الضباط والجنود السوريين الأسرى المفقودين في إسرائيل). لكن ما أثار انتباهه في البداية، وكان مفتاح تشغيل جميع غرائزه الحيوانية، هو بطاقة هوية شخصية كتب عليها: «الاسم : سارة شالوح....»، طُبعت عليها قَطْرياً كلمة«موسوي» بلون أحمر فاقع، كما الوصمات التي كان يدمغها النخاسون بالحديد المحمى على جباه «العبيد» في أفريقيا وأميركا الشمالية وبقية أسواق النخاسة في زمن الكولونيالية!(تعبير«موسوي» في السجلات الرسمية السورية يعني «يهودي/يهودية». وهو تعبير ديماغوجي احتيالي لا معنى له علمياً،لأن جميع المؤمنين بالديانات «اليهمسلامية» الثلاث / اليهودية والمسيحية والإسلام/ هم في واقع الأمر «موسويون» لأنهم يؤمنون بالنبي الخرافي «موسى»)!!
كان الأمر بالنسبة له أشبه بلدغة عقرب أو أفعى أيقظته من غفلة أو نوم عميق! فقد أسرع إلى دفعي نحو زاوية المكتب وأغلق بابه وأوقف تفتيش المسافرين و وضع الكلبشات في يدي والعصابة على عينيّ، قبل أن يضعني في سيارة «بيجو ستيشن» كانت تقف بشكل دائم أمام مدخل «الكرنك»، لتنقلني إلى مقر «الفرع 251» (الفرع الداخلي في «شارع بغداد») التابع لإدارة المخابرات العامة. فقد كان ، كأي بهلول تافه من بهاليل وبغال أجهزة النظام، يعتقد أنه قبض على «جاسوس» كبير، وربما سينال وساماً (من نوع «وسام أمية ذو الرصيعة»!) مكافأة له على ذلك! وهناك ، في الفرع، كنت على مدى شهرين تقريباً في مواجهة تحقيقات لها أول وليس لها آخر من قبل رئيسه ، العميد «محمد ناصيف»، و رئيس قسم التحقيق عنده، العقيد «تركي حامد علم الدين»، ولكن - للأمانة - دون أي ضرب أو تعذيب كما يحصل عادة! غير أن أسوأ الكوابيس التي عشتها يومها هو أنهم وضعوني في الحمّام، وليس في زنزانة نظامية أو مهجع مع سجناء آخرين، لسبب لم أعرفه إلا لاحقاً ، إذا ما صدق حدسي. ففي هذا الحمّام كان استشهد القائد الشهيد «فرج الله الحلو» في 26 حزيران / يونيو 1959 ! وكان «البانيو» الذي جرى تذويبه فيه بالأسيد، بعد تقطيع جثمانه بالمنشار، نتيجة مؤامرة القذر «خالد بكداش»، لا يزال هو نفسه! (أحد عناصر الفرع ، المساعد «سمير جروة»، قال لي ما حرفيته، فقد كان يعرفني منذ أن كان جارنا في «حي الوراقة» بمصياف : هدا البانيو هو نفسه يلي عبد الحميد السراج قتل فيه معلمكم فرج الله الحلو! جايي عبالك تتحمم فيه متله!؟ بس انتبه! يلي بيتحمم هون بروح مع مية الخرا بمجارير الصرف الصحي متل ما راح معلمكم)(1).
أما أتفه وأحقر المواجهات «الحوارية» التي خضتها في حياتي، والتي هي أسوأ من التعذيب الجسدي، فكانت مع «محمد ناصيف / أبو وائل». فبعد قرابة شهرين من التحريات والتحقيقات والتيقن من طبيعة قصتي مع «سارة» وعلاقتي بها،وأن إخوتها الأطباء والصيادلة يعيشون ويعملون في «دوسلدورف» في ألمانيا، ويزورون سوريا باستمرار، وليس في سجلاتهم السورية أي إشارة أو علامة استفهام أمنية، ورفضوا الهجرة إلى إسرائيل...إلخ، قرر إطلاق سراحي، ولكن ليس قبل أن يقول لي « كل شي في نسوان سنيات وعلويات ومسيحيات وسمعوليات ودرزيات بالبلد ، ما عجبك غير وحدة يهودية يا ابن الكلب!؟» (عدّد كل طوائف سورية، واستخدم في سؤاله الشوارعي كلمات أخرى أعفّ عن ذكرها بحرفيتها، لكن يمكن القارىء أن يستنتجها بسهولة!).
بعد أن انتهى من سؤاله السوقي، لم يكن لدي ما أجيبه به سوى ما كنت علمته قبل أقل من ثلاث سنوات من المقدم «آكرمان» ومن الملحق العسكري«كلاوس بيرنت» حين عرفني عليه «جورج»: «سيادة العميد! أنا أحببت امرأة يهودية، عربية سورية، ابنة بلدي، أما رئيسك فلم تعجبه امرأة في الدنيا لكي يتزوجها ... سوى امرأة إسرائيلية»!
صمت لبرهة كي يستوعب الصدمة، بينما كانت عيناه تخرجان من وجهه وتتسمران في وجهي كما المسامير، قبل أن يسأل: «مين قصدك ولاه حيوان؟كمان عم تطاول على السيد الرئيس؟ ما بتعرف أنه زوجته عربية سورية و قريبته أيضاً»!؟
لم يستطع دماغه، رغم ذكائه الذي يجب الاعتراف به، أن يسعفه بتذكر سوى «حافظ الأسد»، فقد خمن أنه هو من أعنيه، قبل أن يستدرك : «ولاه، ليكون قصدك سيادة اللواء مدير الإدارة [اللواء «ماجد سعيد» آنذاك]»!؟
أيقنت عندها أنه لا يعرف المقصود بكلامي،أو أنه يعرفه ولكنه يناور ليعرف ما أعرفه أنا عن القصة!؟
ـ لا هذا ولا ذاك، «معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي»، سيادة العميد! قصدي الدكتور «عبد الرؤوف الكسم»! (كان يومها أصبح رئيساً لمكتب الأمن القومي/ السلطة السياسية العليا لأجهزة المخابرات الأربعة كلها).
ـ قال : و عم تشبه حالك بالنبي يوسف؟ وحافظ القرآن كمان!؟ المهم، هدا مو شغلنا هلق. شو بتعرف عن زوجة الدكتور «الكسم» ولاه؟
ـ قلت : لا أعرف إلا ما قلته لك. إنها إسرائيلية . ولا أعني إنها يهودية ، فهذا كما أصبحتَ تعلم لا يعنيني يا سيادة العميد، طالما أني أنا أعيش مع امرأة يهودية ويمكن أن نتزوج رسمياً وأن تكون أمَّ أولادي في المستقبل ... إلا إذا أصريتم على تلفيق «قضية أخلاقية» ضدي وأرسلتموني إلى شرطة الآداب! ( كان معاونه «تركي علم الدين» هددني بإحالتي إلى شرطة الآداب في الأمن الجنائي بتهمة «العيش مع امرأة دون زواج»، كما يفعل «مطاوعة» آل سعود وطالبان!!).
ـ قال:«بلا علاك! إياك تحكي بهيك موضوع مرة تانية، بقص لسانك. هي أكاذيب وإشاعات معادية ينشرها العدو في مجتمعنا لتهبيط المعنويات ولكي يقول إننا نخترقكم! أنت صحفي وطالب دكتوراه، وشيوعي، ومن المفترض ما بدك حدا يعلمك هيك أمور! الله معك. بس إذا بتفتح هيك سيرة بالمستقبل، رح رجعك على البانيو تبع معلمك!».
طبعاً أجروا أيضاً تحقيقاً موسعاً حول الأوراق المكتوبة بالعبرية، التي كانت في الحقيبة، بعد أن ترجموها في مكان ما. ولكن هذه قضية أخرى سأعود إليها حين الحديث عن المصير المأسوي الرهيب الذي انتهى إليه مئات الضباط والجنود السوريين،والعرب الآخرين،من الأسرى في الحروب والمواجهات العربية - الإسرائيلية (1956، 1967، 1973، 1982).
***
في العام التالي، 1989، أسست «لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا». وفي تشرين الثاني / نوفمير 1991، بعد عامين من العمل السري، وبفضل «قدري جميل»، كلب «علي مملوك» وشريكه العتيق في تجارة السلاح بواسطة طائرات شركة الطيران العربية السورية، كما كشفتها شعبة المخابرات العسكرية (ملف القضية موجود معي)، والمخبر القذر«ياسر اسكيف» من جبلة/ اللاذقية، وآخرين، تمكنت المخابرات العسكرية من اختراقنا وشن حملة اعتقالات ضدنا اعتباراً من 17 نوفمبر 1991.
تمكنتُ من التخفي لحوالي شهر ونصف بعد اعتقال زملائي جميعاً وقبل أن يسلمني شقيق زوجتي آنذاك ( الياس جورج شحود) ويقبض على رأسي ثلاثين من ذهب وليس من فضة! وخلال حملة الدهم التي قام بها العميد «عبد المحسن هلال» (من الفرع 235 / فرع فلسطين) لمنزلي في «أشرفية صحنايا» بعد اعتقالي، عثر فوق «سقيفة الحمّام» على أكياس مليئة بالوثائق الرسمية والأجنبية المتعلقة بعملي الصحفي والحقوقي. وكان من بينها حوالي ثلاثمئة نسخة من العدد الرابع من مجلتنا الشهرية «صوت الديمقراطية»، موضبة في أكياس استعداداً لتوزيعها عبر زملائنا في المحافظات حين بدأت حملة الاعتقالات، فذهبت مع المصادرات الأخرى إلى أرشيف مصادرات شعبة المخابرات العسكرية. وكان هذا العدد هو الأول الذي أطبعه بطريقة التنضيد الضوئي الفخمة في «دار الأهالي»، بدلاً من الآلة الكاتبة كما كنا نفعل قبل ذلك (2)!
لا أعرف حتى الآن ما إذا كان قرار مكتب الأمن القومي الذي قضى في كانون الثاني / يناير 1993 بفصلي عن بقية زملائي وإرسالي إلى «سجن تدمر» و وضعي في العزل الانفرادي المشدد حتى إطلاق سراحي في 6 أيار / مايو 2001، كان على خلفية الوثائق التي ضبطت في منزلي، ومن بينها ما يتعلق بقصة «زوجة الكسم»؟ لكني لا أستطيع إسقاط الأمر من حساباتي!
لاحقاً، وحين تناقشت مع «فولف» بشأن المذكرة، قال لي: لم نكن نعلم أن «الأسد» سبقنا إلى هذه المعرفة، وأنه لم يقرر إسناد هذا المنصب للدكتور «الكسم» إلا لأن زوجته كذلك! فقد كان يريد إرسال رسالة متعددة الأبعاد والمعاني في جميع الاتجاهات، سواء إلى من يهمهم الأمر أو لا يهمهم!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(2) ـ أغتنم هذه الفرصة لتقديم اعتراف واعتذار ... متأخراً 35 عاماً . فقد كنت «أدس» منشورات منظمتنا، ومن بينها مجلة «صوت الديمقراطية»، فضلاً عن فصول كتابي «الإسلام التلمودي»، ضمن مواد مجلة «الأردن الجديد» التي كانت تُنضد رسمياً في «دار الأهالي». وكان تقنيو التنضيد في «الدار» يتعاملون مع المواد بشكل غريزي- أتوماتيكي دون أن يدققوا ما بين أيديهم فينضدوها كلها معاً، قبل أن يقوم مخرج المجلة أو الصحيفة أو الكتاب بإعادة فرزها وقصقصتها وتنسيقها قبل إخراجها وتصويرها على شكل فيلم نيغاتيف وأخذها إلى المطبعة للطباعة. وكل من عمل في هذا المجال يعرف كيف كانت تجري هذه الأمور عملياً. أما أنا فكان حظي طيباً جداً، إذ كان على رأس أولئك التقنيين أحد أعتق وأنبه السوريين الذين عملوا في هذا المجال،وهو مناضل من «حزب العمل الشيوعي» يدعى «نادر فطوم» ( من السلمية)، الذي سيُعتقل لاحقاً، ولكن على خلفية قضية تتعلق بحزبه وليس بمجلتنا. الآن أشعر بأني كنت أغافله مع زملائه في العمل،أو أستغفلهم، وإن دون قصد. فهذه ضرورات العمل السري، والحرص إلى أقصى حد ممكن على عدم توريط الآخرين في قضايا ليس من حقنا توريطهم فيها. فله ولهم مني جميعاً عميق الاعتذار، وإن متأخراً 35 عاماً، مع شكر جزيل على كل ما قاموا به من أجلنا ومن أجل غيرنا، سواء بعلمهم أو دون علمهم، رغم أني لا أعرف أحداً منهم بالاسم سوى «نادر» ... النادر!
شكر آخر ينبغي تقديمه الآن، وفي كل وقت، لكل من العميد «عمر شرق» ( الذي أرجو أن يكون لا يزال على قيد الحياة)، وإلى المقدم المغدور « علي فاضل». فلولاهما لما كان بالإمكان الحصول على ما يهمني من أرشيف شعبة المخابرات العسكرية وغيرها من الأجهزة الأمنية، لاسيما منها ما يتصل بي وبمنظمتنا.





No comments:
Post a Comment
Note: only a member of this blog may post a comment.