Monday, 27 October 2025

منحني اسمه حياً وميتاً لأتدرع  وأتقنّع به كتعويذة:

«جورج فاضل متى»... العبقري الذي رفض «معاوية» مشروعَه الأول من نوعه في العالم فطبّقه أحفاد «سلمان الفارسي» بعد أربعين عاماً لأنهم أعلم من النبي وربّه  بالهندسة الحربية!

هكذا التقينا وهكذا افترقنا (مقاطع عشوائية من سيرة ذاتية وسيرة وطن ... قد لا تهم أحداً).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كتب «نزار» هذه المقاطع أواخر آب وأوائل أيلول الماضي، لكي تنشر في الذكرى الرابعة والعشرين لرحيل صديقه، المقدم المهنس «جورج فاضل متى»، في «برلين» ( 28 تشرين الأول 2001)، مع بعض أوراق «جورج» التي تركها مع صديقته الألمانية.

يرجى النقر على الصور والروابط من أجل تصفح واضح بالحجم الكامل.

(ف. ع.)

ـــــــــــــــــــــــ

    كان ذلك أواخر آب/ أغسطس من العام 1985 ، حين كنت أؤدي خدمة العلم في القوى الجوية والدفاع الجوي، وكان هو برتبة رائد مهندس تابع للجهة نفسها.  

  في ذلك الحين كان يجول على قواعد الاستطلاع الجوي وقواعد الدفاع الجوي مع الفريق الهندسي الألماني الشرقي لإدخال نظام «التتبع والرمي التلفزيوني» الذي يعتمد على أسس كهروضوئية بدلاً من نظام الرماية التقليدي الذي يعتمد على التعقب الراداري الكهرطيسي (في النظام القديم ترى الهدف على شكل نبضة /نبضات إلكترونية يمكن التشويش عليها،وفي النظام الجديد تراه حياً على شكله الحقيقي، بفضل الكاميرات التلفزيونية التي جرى تركيبها على صحون الرادارات.لكن المشروع، الذي بدأ بصواريخ «بتشورا/سام 3» و«كفادرات / سام6»،لم يكتمل بسبب تسارع التطورات السياسية في أوربا الشرقية،ولأن صهاينة موسكو عارضوا استمرار المشروع بعد وصول «غورباتشوف» إلى الكريملن، ولأسباب أخرى تقنية ليس هنا مكان عرضها، وإن كان من أهمها أن المدى الفعال للكاميرات لم يكن يتجاوز 25-30كم، ولا تستطيع تكثيف ضوء النجوم في الليل على غرار ما تقوم به عدسات الأقمار الصناعية، ولا تستطيع حذف الغيوم الداكنة/ الملبدة. ومع ذلك كان هذا النظام ثورة في مجال الاستطلاع والتتبع الجوي القتالي بمعايير تلك الفترة، شرقاً وغرباً. بالمناسبة:كان الكثير من التقنيات الإلكترونية المبتكرة في الأسلحة السوفييتية من إبداع وإنتاج ألمانيا الديمقراطية،بما في ذلك...أشباه الموصلات Semiconductors، التي يتصارع العالم الآن على تقنيات إنتاجها وعلى أسواقها!!).

   وفي ذلك الحين صودف أنهم انتدبوني لثلاثة أشهر من «كلية الدفاع الجوي» في حمص إلى «كتيبة الحجّيرة» في ريف دمشق الجنوبي، التابعة لـ «اللواء 77» المسؤول عن حماية العاصمة، وهو لواء غير غير قياسي/ غير معياري (أكبر لواء دفاع جوي في سوريا،وبخلاف الألوية التقليدية التي تتكون عادة من 3 كتائب قتالية، كان هو يتكون من حوالي 12 كتيبة). وكان الغرض من انتدابي الحصول على خبرة في مجال نظام التتبع التلفزيوني الجديد،كون اختصاصي الأساسي هو«حذف أصداء ثابتة с.д.ц» (اختصاص يتعلق بمكافحة التشويش  في عمل الرادارات) .


 كان قائد الكتيبة يومها ضابط برتبة عقيد يدعى«محسن جميل قبيلي».وخلال أحد الأيام، حين كان دوري في مهمة«ضابط إطعام» (مشرف على إحضار الطعام من مطبخ قيادة اللواء وتوزيعه في الكتيبة) اكتشفت سرقات كبيرة في طعام العسكر المجندين ومستحقاتهم من المنظفات والمواد الغذائية الناشفة، فاصطدمت معه ودارت بيننا معركة كلامية كبيرة أمام ضباط وعناصر الكتيبة، فما كان منه إلا أن رفع تقريراً بأني «شيوعي أحرّض العسكريين على التمرد والعصيان ورفض الأوامر العسكرية». وكل تهمة منها تقصم الظهر في أقبية المخابرات الجوية (التي نتبع لها أمنياً).

   يومها كان قائد «اللواء77» هو العميد «عصام غالب أبو عجيب»، المنحدر من بلدة القدموس،والمولود في دمشق / سنجقدار في العام 1945 (كان أصغر ضابط يحصل على وسام بطل الجمهورية في «حرب تشرين». فقد كان يومها قائد كتيبة «كفادرات» برتبة نقيب وسن لا تتجاوز 28 عاماً!). كانت سمعة هذا الضابط ، بالإضافة إلى اثنين من قادة ألوية الدفاع الجوي الآخرين(العميد الفلسطيني«عبد الله غزاوي»،والعميد «محمد حرفوش»،من قرية «المقرمدة»في  ريف بانياس،الذي كان قائد لواء«كفادرات/ سام6» حين استشهاده في حرب لبنان خلال التصدي للغزو الإسرائيلي في العام 1982)، معروفة في جميع تشكيلات القوى الجوية والدفاع الجوي بسبب نزاهتهم وطهرانيتهم وكفاءتهم وجاهزيتهم القتالية الدائمة.

   كان «أبو عجيب»، الذي سيصبح صديقي لاحقاً (1)، أصدر منذ تسلمه قيادة اللواء تعميماً فريداً في شجاعته وغير مسبوق في مجاله، أمر فيه ضابط أمن اللواء وضباط أمن الكتائب التابعة له بعدم إرسال أية تقارير إلى فرع المخابرات الجوية في المنطقة الجنوبية، أو أي جهة أخرى، قبل أن تمر في مكتبه ويعطي موافقته عليها! وبالطبع لم يكن هذا ليمنع بعضهم من تمرير تقاريرهم من وراء ظهره، وإن بطريقة غير رسمية وليس عبر البريد الرسمي الصادر عن ديوان قيادة اللواء.


  لكن من حسن حظي أن التقرير الذي رفعه «محسن جميل قبيلي» ذهب عبر البريد الرسمي ، فكان لا بد أن يطلع عليه العميد «أبو عجيب»  الذي استدعاني إلى مقر قيادة اللواء الواقعة في أنفاق «جبل المانع»(حوالي 15 كم جنوب دمشق). وهناك عرفت للمرة الأولى أن كاتب أغنية «نحنا ودياب الغابات» لـ «فيروز» ليس سوى القائد الشهيد «فرج الله الحلو»! أما العلاقة بين الأغنية والمكان فعرفها العالم مني للمرة الأولى أيضاً بعد التحقيق الذي نشرتُه قبل سنوات طويلة عن القصة، وسأطلب من زوجتي أن تعيد نشره إذا كان لا يزال موجوداً في أرشيفنا ، لأنه يحكي قصة مليئة بالمفارقات الجميلة والحزينة. لكن النتيجة الأهم التي ترتبت على ذلك اللقاء/ الاستدعاء هو أني تعرفت وجاهياً إلى اثنين من أنبل وأكفأ من أنجبهم الجيش السوري في تاريخه كله : «عصام أبو عجيب» و «جورج فاضل متى»، اللذين أصبحا صديقين حميمين حتى رحيلهما المفجع عن هذا العالم. وكانت المصادفة الجميلة يومها هي اكتشافنا (أنا وجورج) أننا مولودان في يوم واحد (29 أيار/ مايو)، لكن بفارق ثماني سنوات.

  كان «جورج» يومها عضواً في الفريق التقني الألماني الشرقي. وقد جرى اختياره بسبب اختصاصه ولكونه متخرجاً في أكاديمية «شتراوسبيرغ Strausberg» في برلين الشرقية ويعرف الألمانية بطلاقة، فضلاً عن سبب آخر غير معلن هو ميوله اليسارية والشيوعية المعروفة بالنسبة للألمان منذ أن كان طالباً عندهم مطلع السبعينيات. وكانت مهمة الفريق تركيب كاميرات الرمي التلفزيوني وتوليف أنظمة الرادار في كتائب اللواء وفق النظام الجديد، وربطها مع كتائب أخرى في «جبل المانع» تعود لجهات أخرى تعمل بالتنسيق العملياتي معها ومع محطة «تل الحارة»  في ريف درعا الشمالي الغربي (كان يوجد في «الجبل» محطة لإدارة الحرب الإلكترونية ومحطة أخرى للتشويش على الملاحة بواسطة الأقمار الصناعية، و محطة ثالثة للمخابرات العسكرية مهمتها التنصت على الاتصالات الإسرائيلية في الجولان المحتل وداخل فلسطين المحتلة ...إلخ).

   بالمناسبة : جميع ما كان يوجد من معدات وتجهيرات إلكترونية في «جبل المانع» قام الجاسوس الإسرائيلي - البريطاني «أبو محمد الجولاني» بتسليمها لإسرائيل قبل بضعة أيام (27 آب) ،حين سهلت عصاباته التي يقودها الجاسوس «مرهف أبو قصرة» ، منتحل صفة «وزير الدفاع»، دخول شاحنات تابعة لـ «فرقة الجليل / فرقة باشان/ الفرقة 210» التي تحتل الجولان بالدخول إلى أنفاق وبلوكوسات «الجبل»، فضلاً عن مساعدتها على


تنفيذ إنزال جوي بأربع طائرات هيلوكبترعلى قمته،من أجل تفكيك وشحن هذه المعدات إلى فلسطين المحتلة بعد أن فشلت الغارات الإسرائيلية المدمرة يوم الإثنين الماضي (25 آب) في تدمير الأنفاق والبلوكوسات من الجو  بسبب تحصينها الهائل الذي نفذته كوريا الشمالية، وبسبب الطبيعة البركانية للمنطقة، التي تشكل امتداداً جيولوجياً وجغرفياً لـ «هضبة اللجاة»، والتي من شبه المستحيل تدميرها بالقصف الجوي .

***

  في ذلك الحين (صيف العام 1985)، كان «جورج» على وشك إنهاء مشروعه العبقري والمجنون لتصميم قواعد جوية تحت أرضية، بحيث تصبح جميع المطارات والقواعد الجوية السورية تحت الأرض، وليس فوقها، بما في ذلك مهابط الإقلاع والهبوط، ومهاجع الطيارين وضباط الملاحة الأرضية وجميع الملحقات اللوجستية الأخرى كصهاريج الوقود وأنظمة التهوية....إلخ. وكان هذا تحدياً غير مسبوق للعقل الهندسي العسكري التقليدي، وتحدياً جيولوجياً  بسبب تضاريس/طبوغرافيا الأراضي السورية و وقوعها على فالق زلزالي، وبسبب الطبيعة الجيوتكنيكية للأرض (تكوين التربة والصخور)...إلخ. ويومها كان يجول على أساتذة جامعة دمشق المتخصصين في هذه المجالات ويحصل منهم على أجوبة وحلول للمشاكل التي كانت تواجهه، دون أن يعرف أيٌّ منهم السبب الحقيقي لأسئلته. كان يخبر كلاً منهم قصة أكذب من الأخرى لإخفاء الأمر أمنياً: لأساتذة ميكانيك التربة(الجيوتكنيك) كان يقول إنه يحضّر في ألمانيا الشرقية أطروحة دكتوراه عن طبيعة الجيولوجيا السورية وتاريخ تكونها؛ ولأساتذة المياه والصرف الصحي كان يقول إنه يحضر للدكتوراه في مجال هندسة السدود والمياه ومساقط المياه ...إلخ! وفي إحدى المرات، كان له موعد مع الدكتور «محمود نوفل»، عميد كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق آنذاك، فاصطحبني معه لحضور اللقاء. وما إن خرجنا من مكتبه حتى انفجرت ضاحكاً بسبب قدرته المذهلة على تمثيل دور طالب في هندسة الجيولوجيا، رغم أن عالمه العلمي بعيد عن ذلك كله، فهو متخصص في مجال الهندسة الإلكترونية! ومن المؤكد أن هؤلاء الأساتذة، الوارد ذكرهم في مشروعه، وإذا ما كانوا لا يزالون على قيد الحياة ويقرؤون هذه السطور (كما آمل) سيتذكرون تلك اللقاءات وينفجرون ضاحكين من الطريقة التي «استغفلهم» بها ( دون قصد خبيث أو سيء النية بالطبع)، ويكتشفون أنه كان ضابطاً مهندساً في القوى الجوية!

  أواخر تشرين الأول/أكتوبر1985 أنهى مشروعه ورفعه إلى «حافظ الأسد»، بصفته القائد العام للجيش والقوات المسلحة،ليأخذ موافقته على البدء بالتنفيذ، بعد أن كان حصل على تشجيع وموافقة جميع الجهات الأدنى المعنية بالأمر طوال ثلاث سنوات من العمل. وكان أمله بذلك كبيراً، فقد أراد دخول التاريخ من خلال مشروع وطني لا سابق له في العالم، ولم يسبق لأحد أن فكر به، متشجعاً بأن «حافظ الأسد» نفسه كان منحه ثلاث سنوات قِدَم في الرتبة في العام 1982 بعد أن اكتشف - بخلاف الرواية الرسمية الكاذبة- السبب الفعلي لتدمير سلاحنا الجوي ودفاعاتنا الجوية فوق لبنان (83 طائرة معظمها ميغ 23 ،و 34 بطارية صواريخ وخمسة آلاف شهيد وجريح خلال بضع ساعات يومي  9 و 10 حزيران/ يونيو!!)؛ وتحدى الخبراء السوفييت في ذلك. فقد كانوا يكذبون ويدعون أن طائرات أواكس أميركية شاركت في التشويش على طيارينا وراداراتنا...إلى آخر الرواية التي أصبحت معروفة!  لكن «الأسد» أعاد المشروع بتاريخ 16 / 12 / 1985 «مع عدم الموافقة»، دون تبيان الأسباب أو إضافة أي كلمة سوى التوجيه بـ«حفظ المشروع في مقر القيادة العامة للجيش»! (صفحاته الأربع الأولى منشورة في نهاية هذا المقال).

  أصيب «جورج» بحالة اكتئاب رهيبة إلى حد أن كل من كان حوله بدأ يخشى تدهوراً أكثر خطورة في وضعه الصحي. ومنذ تلك اللحظة بدأ يفكر بتقديم استقالته ومغادرة سوريا نهائياً إلى ألمانيا الديمقراطية، بل وبالهرب إذا لم يوافقوا على استقالته قانونياً. وفي وقت كان يفكر جدياً بالأمر ويجري بعض الترتيبات العائلية، جاء اعتقاله بعد أقل من شهرين على رفض مشروعه (12 شباط / فبراير 1986) حين ضُبطت نسخة من مجلة «الراية الحمراء»، صحيفة «حزب العمل الشيوعي» المركزية ، تحت فراشه في مكتبه بمحطة الاستطلاع الجوي في «مرج السلطان» بريف دمشق (كانت اللواء 82، وأصبحت «إدارة الاستطلاع الجوي» بعد أن زودنا «يوري أندروبوف» بمحطات استطلاع وإنذار مبكر اعتباراً من مطلع العام 1983، لتعويض خسائرنا الكارثية في المجزرة التي لحقت بقواتنا الجوية ودفاعنا الجوي في لبنان).  وكان «سعر» مجرد قراءة و/أو اقتناء هذه المجلة، حتى دون عضوية في هذا الحزب، ست سنوات سجناً، وفق «لائحة أسعار» مكتب الأمن القومي ومحكمة أمن الدولة العليا! لكن، وبسبب تدخل البطريرك «أغناطيوس الرابع هزيم» ، قريب والدته «القديسة هيلانة»، كما كنت أسميها، و بفعل تاريخه المهني المشرّف وما قدمه للجيش خلال وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 ، باعتراف «حافظ الأسد» خطياً، الذي لم يكن يإمكانه التغاضي عن ذلك كله رغم طغيانه، أمَرَ بإطلاق سراحه بعد حوالي ثلاثة أشهر، ولكن مع الموافقة على طلب المخابرات الجوية بتسريحه، وعلى احتفاظه بحقوقه المادية والمعنوية في آن معاً! (الوثائق ذات الصلة ، مرفقة جانباً).


  لاحقاً،وبعد أن جئت إلى أوربا وحصلت من «ماركوس فولف» على إرشيفه الشخصي لتحرير مذكراته عن العالم العربي،عثرت بين أوراق الأرشيف على برقية مُرسَلة من قبل سفير ألمانيا الديمقراطية في دمشق «فولفغانغ غرابوفسكي» بتاريخ3 آذار/مارس 1986 إلى وزير خارجية حكومته «أوسكار فيشر» (منشورة جانباً) يعلمه فيها باعتقال المقدم المهندس «جورج فاضل متى»، وبأنه استفسر عن الأمر من وزير الخارجية «فاروق الشرع»، بينما تابع الملحق العسكري «كلاوس بيرنت» من ناحيته موضوع الاعتقال مع وزير الدفاع السوري «مصطفى طلاس»، للتأكد مما إذا كان اعتقاله ليس له علاقة بصلاته العسكرية مع ألمانيا الديمقراطية. ويشير السفير في برقيته إلى أن الإجابات السورية الرسمية أكدت أن اعتقال«جورج» جاء على خلفية «صلته بحزب العمل الشيوعي المحظور». ولهذا اقترح على حكومته في برلين أن يتدخل وزير الدفاع الوطني،الفريق«هاينز كسلر Heinz Keßler»،لدى نظيره السوري من أجل إطلاق سراحه«كونه ضابطاً ذكياً لامعاً،وصديقاً وفياً لشعب ألمانيا الديمقراطية ويعمل مع الفريق الاستشاري العسكري الألماني/ الشرقي». وهكذا يبدو أن جهود البطريرك «هزيم» وحكومة ألمانيا الديمقراطية تضافرت معاً لإطلاق سراحه، خصوصاً أن قضيته كانت على درجة من التفاهة التي لا ينحطّ إليها سوى ضابط قذر من نوعية «علي مملوك»، الذي كان يشغل يومها رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية. هذا فضلاً عن أن «الأسد» لم يكن يستطيع أن يرفض طلباً من ألمانيا الديمقراطية، وهي التي أجرت قبل ذلك ببضع سنوات - بناء على طلبه - تحقيقاً على مدى عام كامل تقريباً في سبع دول عربية وأجنبية لاكتشاف لغز وملابسات اختطاف الإمام «موسى الصدر» وتصفيته مع رفيقيه بقرار من «نادي السفاريSafari Club» الاستخباري السري. وفي العام 2002، وحين بدأت اتصالاتي مع «ماركوس فولف» و بقية رفاقه المدنيين والعسكريين السابقين الذين وصلني بهم وعرّفني عليهم، التقيت «هاينز كيسلر»، الذي كان أطلق سراحه من السجن وأصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني (المعاد تأسيسه بعد إعادة توحيد ألمانيا). يومها قال لي ما حرفيته «لقد اتصلت أنا  شخصياً مع اللواء [محمد] الخولي من أجل إطلاق سراح جورج، لأني كنت أعرف الخولي شخصياً منذ أن تدرب عندنا مطلع السبعينيات، حين كنت أنا قائداً للقوى الجوية. و كنت أتعاطف مع جورج ليس فقط لأسباب سياسية، ولكن لأسباب مهنية أيضاً. فقد كان ضابطاً مهندساً بارعاً، وكنا رفاق سلاح، كوننا ننتمي كلينا من حيث المهنة إلى القوى الجوية».

***

   كانت اللوائح تنص على عدم السماح لأي ضابط سوري مسرّح بمغادرة البلاد قبل مرور خمس سنوات على تسريحه .. إلا بموافقة استثنائية من الجهة المعنية، لاسيما إذا كانت خدمته في موقع حساس. لكن البطريرك «هزيم» تمكن يومها من حل المشكلة مع اللواء «محمد الخولي»،فانتزع منه استثناءً خاصاً يسمح له بالسفر في 2 حزيران / يونيو 1986. وفي ذلك اليوم لم تكن هناك رحلات إلى «برلين الشرقية» مباشرة من دمشق، فذهب إلى بيروت ليسافر من هناك،لأنه لم يستطع البقاء ولو لساعة واحدة!


  ترك لي يومها رسالة قال لي فيها : «أنا الآن حر! لو كان هناك طنبر أو قافلة حمير من دمشق إلى برلين، لما تأخرت عنها دقيقة واحدة للذهاب إلى وطن بريخت! ليس حباً ببريخت فقط، ولكن هرباً من مقبرة معاوية التي لا يمكن أن تحب سوى الجثث! الآن أوافقك الرأي : هذا الوطن مصاب بسرطان لا شفاء ولا براء منه!».

  ذهب«جورج»،وخسرته بلاده وجيشه وأهله، وربحته بلاد أخرى...كالعادة،فقد جرى تعيينه محاضراً في أكاديمية «شتراوسبيرغ» (مقر قيادة القوى الجوية) وفي الكلية الجوية، رغم أنه لم يكن مواطناً بعد! وحين انهار«جدار برلين»، بفعل «مؤامرة  غورباتشوف- جورج بوش الأب»،حيث «كان غورباتشوف عميلاً  عتيقاً لوكالة المخابرات المركزية»، كما يعتقد نائب آخر وزير خارجية سوفييتي ، «فيكتور إسرائيليان»،وكذلك رئيسه «أندريه غروميكو» أيضاً(راجع هنا ما كتبه إسرائيليان عن القضية،الصفحة98 وما بعد)،لم يكن «جورج» أصبح مواطناً بعد ، فسارع وزير الدفاع «هاينز كسلر» إلى التدخل لدى وزير الداخلية « فريدريش ديكل Friedrich Dickel» من أجل منحه الجنسية فوراً، قبل مغادرته منصبه وقبل إعادة التوحيد التي بدت وشيكة، لئلا يفقد وضعه القانوني ويجري طرده أو إعادته إلى سوريا بعد الوحدة. وطبقاً لما أخبرني به « كسلر» فإن قرار منح «جورج» جنسية ألمانيا الديمقراطية «كان على الأرجح آخر قرار وقعه الرفيق /ديكل/ قبل مغادرته منصبه». وبعد أقل من عام اكتشف الأطباء إصابته بلوكيميا الدم  الناجمة(كما شخصوا الحالة) عن تعرضه لكميات كبيرة من الإشعاعات الكهرطيسية خلال خدمته في مجال الرادارات، وهو نوع من سرطانات الدم منتشر على نطاق واسع في أوساط العاملين في مجال الرادارات في جميع أنحاء العالم، إلى حد أن الضباط السوريين العاملين في هذا الاختصاص كانوا معفيين ، وحدهم دون غيرهم، من موافقة إدارة شؤون الضباط على زواجهم المبكر قبل تثبيتهم برتبة ملازم أول عامل، لأن طبيعة الاختصاص يمكن أن تتسبب لهم بالعقم أيضاً. 


  قاوم المرض بشجاعة وعاش قرابة عشر سنوات بعد ذلك، حين كنت أنا في سجون ومعتقلات النظام، إلى أن توفي في 28 أكتوبر 2001 ، يوم كنت أنا أصبحت في مشفى«بيتيه سالبيتريير» في باريس بعد إطلاق سراحي و وصولي إلى فرنسا للعلاج في 15 تموز/ يوليو من العام نفسه! وهكذا لم يقيّض لنا أن نلتقي أبداً منذ افترقنا للمرة الأخيرة ربيع العام 1986، لكنه كان من أوائل من سمعت صوتهم بعد وصولي إلى فرنسا. ولأنه كان أكرم من جده «حاتم الطائي»، لم ينسَ - رغم محنته الصحية- أن يترك لي رسائل توصية إلى عدد من الضباط السوفييت والألمان الشرقيين القدامى الذين خدم معهم أو تعرف عليهم في مناسبات مختلفة، وعلى رأسهم صديقه الأدميرال «إيغور كاساتانوف  Игорь Касатонов»، القائد السابق لأسطول البحر الأسود، الذي تولى مواكبة وحراسة نقل محطات الاستطلاع الجوي وبطاريات صواريخ «إس 200» مطلع العام 1983، بأوامر «أندروبوف»، إلى ميناء طرطوس. ويومها كان «جورج» أحد الضباط المهندسين الذين تولوا استلامها ونقلها إلى قواعدها الجديدة. وبفضل إحدى رسائل التوصية تلك، تعرفت على الأدميرال «كاساتانوف» الذي أصبح أحد أهم المصادر التي أعتمد عليها في عملي الصحفي بعد إطلاق سراحي ومجيئي إلى أوربا وحتى اليوم. وفي العام 2014 أجريت معه مقابلة بالروسية (لم أترجمها إلى العربية) لصالح مجلة أسطول البحر الأسود. وفي هذه المقابلة أعطاني سبقاً صحفياً يتعلق بقاعدة«سيباستوبول»البحرية في جزيرة«القرم» ، استنتجت منه يومها،على مسؤوليتي،أن ضم «القرم» (أو بالأدق إعادتها إلى وطنها الأم / روسيا)، أصبح وشيكاً. وهو ما حصل فعلاً بعد فترة قصيرة.

***

 قبل حوالي ثلاثة أعوام، وفي 7 شباط / فبراير 2023 على وجه التحديد، كشفت إيران عن أول قاعدة جوية في العالم يجري إنشاؤها تحت الأرض باسم «عقاب 44»، التي تقع في بطن أحد الجبال، قرب «مضيق هرمز». وبعدها سرّبت الاستخبارات العسكرية الأميركية(عبر معهد واشنطن) صوراً فضائية تكشف أنها كانت تتابع إنشاء القاعدة منذ بُدىء العمل بها في العام 2016.


  التدقيق في أشرطة الفيديو التي بثها التلفزيون الإيراني، وكذلك الصور الفضائية الأميركية، يوحي بأنها تكاد تكون صورة طبق الأصل عن التصميم الذي وضعه «جورج» في العام 1985، ورفض «الأسد» الموافقة على تنفيذه وتعميمه ليشمل جميع القواعد الجوية السورية. لكني لست متأكداً مما إذا كان الإيرانيون حصلوا على الفكرة والتصميم من وزارة الدفاع السورية،أم أن الأمر مجرد توارد خواطر بين المهندسين الإيرانيين و «جورج». وهذا ليس مستبعداً، نظراً لإنجازاتهم في هذا المجال، ولإرثهم الهندسي - المعماري منذ إمبراطورية فارس القديمة، مروراً بجدهم ومعلمهم «سلمان الفارسي» الذي أثبت أنه أذكى من الله الغبي والأحمق، الذي لم يستطع أن يوحي لنبيه اليهودي - التلمودي «محمد بن عبد الله» بفكرة إنشاء «الخندق» حول مدينة «يثرب»، فجاء الزرادشتي «روزبه الفارسي» ليقوم بذلك! وهكذا أثبت أحفاد «سلمان» أنهم هم من يصنع التقدم والحضارة، أما أحفاد «معاوية» فوظيفتهم الوحيدة في الحياة هي التبرز ليس على قارعة طريق الحضارة فقط،بل وفي وسطها أيضاً،وإعادة إنتاج«التلمود» و«الشريعة اليهودية» والدعوة الفعلية لعبادة «يهوه» في لبوس الإسلام السني التلمودي، وإصدار فتاوى الإرهاب والقتل،العنصرية والطائفية الإجرامية، كما نبيهم التلمودي الذي شرّع لهم الكشف عن الأعضاء التناسلية للأطفال قبل قتلهم، تماماً مثلما شرّع لهم اغتصاب الأطفال حين «دخل بالطفلة عائشة»، حسب روايتهم، وهي في التاسعة من عمرها! ولهذا كان أمراً منطقياً تماماً أن «تتخذ النقابات الحرفية الإسلامية والمسيحية في العصور الوسطى (المعروفة بـ «الأصناف Guilds») من سلمان الفارسي شفيعاً لها». فقد كان بالنسبة للحرفيين، صانعي الحضارة والابتكار الصناعي،على غرار،«بروميثيوس» في الأساطير اليونانية،الذي سرق نار المعرفة والابتكار من الآلهة الأولمبية وأعطاها للبشر!


***

 في العام 1990 أرسلت له بالفاكس صورة عن العدد الأول من مجلتنا «صوت الديمقراطية» ، وكانت افتتاحيتها موقعة باسم «جورج متّى»، الذي كان اسمي المستعار في منظمتنا. ومما قلته له في الرسالة:«حين قررنا أنا وزملائي اختيار أسماء مستعارة لنشاطنا وللتعارف  والتراسل فيما بيننا،لم أجد سوى اسمك عالقاً في ذاكرتي، فقررت استخدامه بعد أن تأكدت من أنك لن تعود إلى سوريا. ويومها قال لي زميلنا عفيف مزهر، الذي اختار اسم سهيل طويلة، تيمناً باسم القائد الشيوعي اللبناني الذي اغتيل مطلع العام 1986، كيف خطر على بالك هذا الاسم، ومن أين جئت به؟ وباعتباره ابن السويداء ويحب المتة، لم يستطع ذكر اسمي إلا بصيغة : جورج متي ... بالياء!». 

   بعد بضعة أسابيع أرسل لي «جورج» رسالة فاكس جوابية إلى مكان عملي في مجلة «الأردن الجديد» قال لي فيها : «لم أكن أتخيل أنك تحبني إلى درجة أن تتخلى عن اسمك وتحمل اسمي. دير بالك على حالك. بعد وفاة أبي والقديسة هيلانه [أمه]، أنت حبل السرة الوحيد الذي لا يزال يربطني بالبلد الذي يغتصبه الطاغية معاوية [حافظ الأسد]... وبالنسبة لصاحبك عفيف، قل له عن لساني: للأسف لا يوجد متة في برلين، وإلا كنت أرسلت له  كرتونة كاملة! يوجد عندنا نوردهاوزر دبلكورن Nordhäuser Doppelkorn ، وهو أفضل مشروب كحولي عندنا. فإذا كان شغل كاس وطاس، يخبرني لابعتله كم لتر»! وقد نسيت آنذاك إبلاغ «عفيف» بذلك، ربما لأني لم أحب أن أخبره بعلاقتي مع «جورج»، التي احتفظت بها سراً خاصاً لنفسي. وهذه هي المرة الأولى التي أذكر القصة، فعساه يعرفها ولو متأخراً 35 عاماً!

  إلى «جورج» في ذكرى رحيلك: يؤلمني كثيراً أنك لم تكن تعلم أني كنت أحبك إلى هذه الدرجة؛ ويؤلمني أكثر أنك رحلت قبل أن تعرف أني واظبت على استخدام اسمك حتى اليوم، كتعويذة؛ ويؤلمني أكثر من أي شيء آخر أنك لم تعد بيننا. فمن سوء الحظ أنك ولدت في بلدٍ يجتاحه السرطان الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً؛ بلدٍ ينكر كل من رضع حليباً طاهراً ولا يعترف إلا بأبناء الحليب الفاسد.

إلى لقاء قريب أيها الحبيب ... أصبحتُ أشعر أنه أقرب من أي وقت مضى.

ـ لندن، مشفى كرويدون الجامعي، أوائل أيلول / سبتمبر 2025

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ كانت السيدة «زهراء أصفهاني / أم مجد» ، زوجة العميد «أبو عجيب»، وكلما زرناهم في منزلهم في «حي البرامكة» بدمشق إلى حين اعتقاله في العام 1989، تقول مازحة بعد أن تستمع لنقاشاتنا في الدين والإيمان والقضايا ذات الصلة:«ما من سقف في الدنيا اجتمع تحته الكفر كله والإيمان كله مثل سقف بيتنا»! فقد كان زوجها متديناً على المذهب الجعفري، بينما أنا و«جورج» شيوعيان وملحدان! وبفضل «أبو مجد» علمتُ للمرة الأولى بعدد من الجرائم التي مكنني من الإمساك بطرف خيطها وتابعت التحقيق فيها، لعل أشهرها قضية «اختبار أسلحة كيميائية» على معتقلين سياسيين وسجناء حق عام تحت إشراف «علي مملوك»، وقضية إدخال نفايات كيميائية مشعة من قبل عبد الحليم خدام وأولاده ودفنها في البادية السورية مقابل 25 مليون دولار من شركات أوربية ، وقضية فرار الطيار المزعوم أنه «بسام العدل» بطائرته إلى إسرائيل في 11 أكتوبر 1989 بتواطؤ الجاسوس «علي مملوك». وبسبب هذه القضية الأخيرة، وحديث «أبو عجيب» عنها في اجتماع لضباط قيادة «الفرقة 24»،التي كان أصبح رئيس أركانها،اعتقل في العام 1989 في أقبية المخابرات الجوية، ثم سجن صيدنايا،حتى الموت في «مشفى الباسل لجراحة القلب». فقد انفجر قلبه بسبب الجرائم التي ارتكبها «مملوك» بحقه خلال فترة توقيفه في زنازين «فرع التحقيق» في مطار المزة، وأقلّها إعطاء الأوامر لعناصره بالتبول في علبة البلاستيك التي كان يستخدمها كصحن للطعام في زنزانته، وبنتف شعر حاجبيه والمناطق الأخرى الحساسة من جسمه بخيطان نايلون (خيطان مسبحة)! ذلك في الوقت الذي كانت «أكاديمية جوكوف للدفاع الجوي»، في مدينة «كالينين» السوفييتية، تدرّس طلابَها أساليبَه وتكتيكاته في«نصب الكمائن الجوية بواسطة الصواريخ المتحركة»،التي ابتكرها خلال «حرب تشرين1973» بواسطة صواريخ «كفادرات/ سام 6». فيوم 16 تشرين الأول /أكتوبر 1973،  كانت كتيبته وحدها صاحبة الحصة الأكبرمن الـ 21 طائرة إسرائيلية  التي جرى إسقاطها في ذلك اليوم الذي أصبح - بسبب ذلك- «عيد القوى الجوية والدفاع الجوي»، قبل أن يلغيه الجاسوس الإسرائيلي «أبو محمد الجولاني» بناء على طلب إسرائيل، التي طلبت منه مسح كل ما له علاقة بتلك الحرب من التاريخ والذاكرة الجمعية السورية!!

    لا بد من الإشارة هنا إلى أن منزل «أبو عجيب» في «حي البرامكة»، ورغم أنه كان قائد لواء ثم رئيس أركان «الفرقة 24»عند اعتقاله، لم يكن منزله في واقع الحال، بل مستعاراً من أهل زوجته. فهو لم يكن يملك بيتاً. وبعد اعتقاله بفترة حصلت عائلته على بيت  خلف «وزارة الإعلام» على أوتستراد المزة، كان اكتتب عليه، كأي عسكري آخر، لدى مؤسسة الإسكان العسكري قبل 15 عاماً على ذلك. وحين زرت «أم مجد» وأولادها فور إطلاق سراحي في أيار/ مايو 2001 لتقديم واجب العزاء بزوجها الذي كان توفي في آذار / مارس من العام الذي سبقه، لم تكن العائلة سددت بعد أقساط المنزل كلها! 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

الصفحات الأربع الأولى من مشروع 

المقدم الفني الجوي المهندس «جورج فاضل متى» لإنشاء قواعد جوية تحت أرضية





 

 

 

 

No comments:

Post a Comment

Note: only a member of this blog may post a comment.